حين يصبح الجوع سلاحًا… غزة تختنق بلا مقاومة ولا معابر
قال الخبير العسكري، العميد الركن المتقاعد أيمن الروسان إنه بعد مصادقة حكومة الاحتلال الإسرائيلي على خطتها الرامية إلى إحكام السيطرة الكاملة على قطاع غزة، باتت دلالات هذا القرار أكثر من مجرد تفاصيل سياسية عابرة، إذ إنها تفضح جملة من التعقيدات التي تُملي على المشهد الإسرائيلي الداخلي والخارجي ملامح مرحلة بالغة الخطورة.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن المراقبة الدقيقة للتصريحات الصادرة عن أقطاب الحكومة الإسرائيلية، بدءًا بسموتريتش وزامير، مرورًا بنتنياهو نفسه، تكشف بلا لبس عن أن الحرب التي يخوضها الاحتلال تجاوزت بكثير المسوغات المعلنة المتعلقة بقضية الأسرى، والتي أضحت، من منظور واقعي، مجرد ذريعة هامشية لتبرير استمرار آلة الحرب، بعدما تحوّلت الأهداف الكبرى إلى رهانات داخلية تتعلق ببقاء نتنياهو السياسي، وحماية ائتلافه الحكومي الهش، والالتفاف على أزماته القضائية المتفاقمة، بما ينطوي عليه ذلك من محاولة مكشوفة لإعادة إنتاج نفسه كـ"رجل المرحلة" في نظر الرأي العام الإسرائيلي، مستفيدًا، بلا شك، من الغطاء السياسي والدعم اللوجستي الموفّر من قبل الإدارة الأميركية التي تماهت، إلى حدّ التواطؤ، مع أجندة الحرب.
وبيّن الروسان أن ما بات يُعرف في الخطاب السياسي الإسرائيلي بـ"النصر المطلق" لا ينفصل مطلقًا عن مسعى نتنياهو إلى القضاء المبرم على حركة حماس، من خلال دفعها قسرًا إلى إعلان الهزيمة ورفع الراية البيضاء والتخلي الكامل عن سلاحها والخروج النهائي من القطاع، وهي أهداف، وإن بدت طموحة على الورق، فإن الوقائع الميدانية تُظهر أن الحرب استنفدت جلّ أغراضها العسكرية، وأن ما تبقى منها ليس سوى استثمار سياسي مكشوف.
وذكر أن القطاع اليوم يرزح تحت وطأة أوضاع إنسانية كارثية بكل المقاييس، إذ بلغت معدلات الجوع والعطش وانعدام أبسط مقومات الحياة حدًّا لا يُحتمل، في ظل تدمير منهجي للبنية التحتية وشلل شبه تام في الخدمات الأساسية، فضلاً عن تآكل القدرات القتالية للمقاومة، ما يجعل استمرار الحرب، على المستوى الموضوعي، فاقدًا لأي مشروعية عسكرية أو أمنية، مضيفًا أن نتنياهو لا يزال يصرّ على تسويق ذرائع واهية، بينما يتعامى عن مشهد دولي مرتبك يتراوح موقفه بين الإدانات الشكلية وغضّ الطرف المشين.
أما من ناحية القرار الأخير باستدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط، فهو يُقرأ في سياق التصعيد الممنهج، الذي يستهدف، من جهة، تكثيف الضغط العسكري، ومن جهة أخرى، ترهيب المجتمع الغزي، بحجة تحرير الأسرى وحسم المعركة مع حماس، غير أن ما يفاقم تعقيد المشهد هو تصاعد موجة الرفض في أوساط الاحتياط، التي باتت تعكس، بجلاء، التصدعات داخل المؤسسة العسكرية، وتشير ضمنيًا إلى هشاشة القناعة بجدوى الحرب وجدواها، لا سيّما في ظل اليقين المتزايد بأن الأهداف المعلنة تخفي خلفها أجندة سياسية ضيقة لا تخدم إلا طموحات نتنياهو الشخصية، وفقًا لما صرّح به الروسان لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ونوّه إلى أن رفح ستكون على الأرجح مسرح المرحلة المقبلة من العمليات العسكرية، وهو ما يتطلب ـ من الناحية اللوجستية ـ جملة من الترتيبات، من أبرزها إعادة التموضع الميداني، تأمين خطوط الإمداد، تحديد مناطق إيواء المدنيين، وإعادة رسم خرائط الاشتباك، وهي خطوات يُعتقد أن إسرائيل قد أنجزت جزءًا كبيرًا منها، ما ينذر بتصعيد وشيك يُرجّح أن يحمل تداعيات إنسانية كارثية.
وحذّر الروسان من أن ثمة بُعدًا أخطر يتمثل في البُعد الديموغرافي، إذ يبدو جليًا أن إسرائيل شرعت في تنفيذ استراتيجية "المناطق العازلة"، التي تهدف إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية للقطاع، من خلال تفريغه ديموغرافيًا وفرض وقائع ميدانية تحول دون عودة السكان، وهو ما يُعتبر، من حيث الجوهر، تجسيدًا عمليًا للمخطط الصهيوني الشامل الرامي إلى تفتيت النسيج الجغرافي للقطاع، وإنهاء القضية الفلسطينية عبر تجزئة الأرض، وتقطيع أوصالها، وإضعاف بنية المقاومة.
وأردف أنه لا يمكن إغفال ما يجري على محورَي فيلادلفيا وموراج، حيث تسعى إسرائيل إلى تثبيت معادلات ميدانية جديدة من شأنها إحكام السيطرة العسكرية، وتقليص هوامش المناورة أمام المقاومة، تمهيدًا لإعلان "الحسم" العسكري والسياسي، متسائلًا حول مدى قدرة كتائب القسام والفصائل الأخرى على الصمود في مواجهة هذا الزخم العسكري غير المسبوق... وما هي الخيارات المتبقية أمامها لمواجهة ما قد يكون أخطر مراحل هذا العدوان؟.
وأشار الروسان إلى أن نتنياهو لا يمتلك ـ حتى اللحظة ـ تصورًا متماسكًا لليوم التالي، وأن استراتيجيته تقتصر على إدارة الأزمة وإطالة أمدها، عبر تعميق معاناة السكان، وخنق الحاضنة الشعبية، وإبقاء المقاومة في حالة استنزاف دائم، بما يسمح له بتحقيق مكاسب سياسية داخلية، ولو على أنقاض الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية.