أبو زينة يكتب: الصحافة في "سجن بانثام"..!

  علاء الدين أبو زينة

إذا كان «اليوم العالمي للصحافة» الذي مرّ أمس مناسبة لتأمل أحوال الصحافة، فإن أحوالها لا تسرّ. وليس السوء مقتصرًا على صحافة «العالم الثالث» غير الحر، وإنما يتعداها إلى الصحافة السائدة في الغرب «الديمقراطي» نفسه. يظهر ذلك بوضوح غير مسبوق في التغطيات الخائفة والمروضة لأحداث الشرق الأوسط، وما يتعرض له الصحفيون النزيهون من التوجيه المنحاز، والإسكات، وحتى الطرد. وقد شاهدنا صحفيين نزيهين وفيين لأخلاق المهنة يستقيلون من الصحف والشبكات الإعلامية الغربية، ويغامرون بسبل عيشهم نفسها.
لعل أخطر وضع يُدفع إليه الصحفيون هو جعل الصحفي يراقب نفسه بنفسه، ويحاكم فكرته قبل أن يجرؤ على البوح بها. هكذا تتحول مهنة الصحافة، التي يُفترض أن تكون ضمير الأمم ولسان حال الناس، إلى كائن مروَّض يناور للتحرك بين حقل من القيود المرئية وغير المرئية، أخطرها الرقابة الذاتية التي لا تقل إحباطًا عن رقابة الأجهزة، وقد تتجاوزها في عمق التأثير وخطورة النتائج. إنها تترك للصحفي تقدير الحدود. ولكي يبقي رأسه سالمًا، سيفضل تجنب «الشبهات» وارتياد مساحات ربما تكون مسموحة، فيضيق على نفسه المساحات.
حال الرقابة الذاتية في الصحافة طباق للنموذج النظري الذي وضعه جيريمي بانثام في القرن الثامن عشر: نموذج «البانوبتيكون»، أو السجن الدائري، الذي يصلح كمجاز بليغ يفسر الرقابة في المجتمعات –والصحافة.
تصوَّر بانثام سجنًا دائريًا تُراقَب فيه الزنازين من برج مراقبة مركزي، يرى منه الحارس الزنازين ولا يراه السجناء. وبذلك لا يعلم السجين إذا كان تحت المراقبة في لحظة معينة أم لا، فيتصرف كل الوقت وكأنه تحت النظر. ويتيح هذا النموذج عدم وجود حارس في البرج، بينما يظل السجناء منضبطين. هذه الآلية النفسية -المبنية على الاحتمال الدائم لوجود المراقبة- هي أساس الرقابة الذاتية. إنه يصنع في العقل سجينا يطوِّع صاحبه حتى من دون أن تطاله يد السلطة.
في الممارسة الصحفية في العالم العربي، لا يسأل الصحفي نفسه عندما يكتب: ما هي الحقيقة؟ سوف يسأل قبل ذلك: ما الذي يُسمح لي بقوله؟ ما الذي قد يثير غضب مسؤول؟ من هي «الخطوط الحمراء» غير المعلنة التي يجب أن لا أتجاوزها؟ وبذلك يتعلم الصحفي أن «يتفادى» لا أن «يواجه»؛ أن «يتكيّف» بدل أن «يُصرّح»، ويتحول -بوعي أو من دونه- إلى أداة لتكريس سيطرة السلطات على الفضاء العام.
لا تأتي الرقابة الذاتية من فراغ، وإنما كنتيجة لتاريخ طويل من «تطويع» الصحفيين. عندما يُسجن أحدهم بسبب تحقيق في الفساد، أو يُفصل آخر بسبب نقد بسيط للسياسات، أو مناقشة فكرة بديلة، فإن الرسالة تكون واضحة: «احذر أن تكون التالي». هكذا يتحول الخوف إلى جزء من أدوات العمل الصحفي اليومية، كما يتحول الحذر إلى بوصلة مهنية، ومعيار لمدى أهلية الصحفي، والمحرر، ورقيب المؤسسة الإعلامية.
الطبيعي هو أن ينعكس هذا التكوين على البنية العامة للوعي المجتمعي. يصبح إنتاج المعرفة محددًا بالموافقة السياسية، والحقيقة تُخضع للتعديل لتُناسب الرواية الرسمية. والناس، الذين لا يحبون الاستهانة بذكائهم يفقدون الثقة في الإعلام المؤسسي ويذهبون إلى إعلام بديل، ويتحول الخطاب العام إلى مرآة مشوهة للواقع. والنتيجة مجتمعات تعيش في فجوة معرفية، لا تعرف ما الذي يحدث حقا، ولا تستطيع أن تصوغ مواقفها بوعي حر.
أخطر ما في هذا النموذج أنه لا يحدد ما يُقال فحسب، وإنما ما يُحذَف، ويُسكت عنه، ويُؤجَّل. والنتيجة هي حذف القضايا الأساسية -من العدالة الاجتماعية، إلى حالة الحريات، إلى السياسات التي قد لا يوافق عليها الجمهور- من النقاش العام. وعندما يصبح الإعلام منفصلًا عن اهتمامات الجمهور، فإنه يفقد جودة منتجه ويصبح غير مرغوب للاستهلاك.
ثمة في الجغرافيا العربية نظام بانثامي كامل، يشمل العقول والسلوكيات والكتابات. ويتطلب تفكيك هذا النموذج من الرقابة الذاتية والخارجية المفرطة، أولًا، تشخيصه والاعتراف به. ويقتضي، ثانيًا، إرادة مؤسسية ومجتمعية لتغيير شروط العمل الإعلامي، بحيث يُفهم الصحفي لا كخصم أو خطر، بل كمساهم في بناء دولة الرأي والرشد والحقيقة. ولن ينتج استمرار الرقابة -خاصة الذاتية- سوى مزيد من التآكل في الوعي، والانفصال بين الشعوب والحكومات، وضحالة أدوات فهم الذات والواقع.