النقرش يكتب: الوجوه تتكرر والمصالح تتجذّر: قراءة في انسداد الأفق الاقتصادي الأردني

 

الدكتور إبراهيم النقرش

يعاني الاقتصاد الأردني منذ سنوات من أزمات متراكمة باتت تهدد استقراره الاجتماعي وقدرته على تحقيق تنمية مستدامة. فالمؤشرات الاقتصادية لا تبعث على الاطمئنان، في ظل تفاقم الدين العام الذي تجاوز حاجز الخمسين مليار دولار، ونسبة إجمالي الدين العام للناتج المحلي الإجمالي 117 بالمئة، وبلوغ نسب البطالة، لا سيما بين الشباب، مستويات خطيرة تتجاوز العشرين في المئة. هذا الواقع يجعل من الصعب الحديث عن نهوض اقتصادي دون إجراء مراجعة جذرية للسياسات الحالية وتبنّي رؤية جديدة أكثر جرأة وشفافية.

الواقع الاقتصادي الراهن يُظهر اعتمادًا مفرطًا على المساعدات الخارجية والمنح الدولية، وهي مساعدات غالبًا ما تكون مشروطة وتحد من استقلال القرار الاقتصادي والسياسي للدولة. فقد أصبح الاقتصاد الأردني، في كثير من جوانبه، اقتصادًا ريعيًا استهلاكيًا تبعيًا، لا يقوم على الإنتاج بقدر ما يعتمد على الإنفاق والتحويلات والمساعدات، وهو ما يجعله هشًا أمام أيّ تغيرات إقليمية أو دولية.

في الوقت ذاته، ما تزال الإدارة الاقتصادية تُعاني من الجمود والروتين، إذ تتكرر نفس الأسماء في المواقع القيادية دون تقديم حلول مبتكرة، وكأن التغيير في الوجوه ممنوع، والتجديد في السياسات مستحيل. يُرافق ذلك غياب فعلي لدور القطاع الخاص، الذي يئن تحت وطأة التشريعات المعقدة، وبيئة الاستثمار الطاردة، وغياب الحوافز الجاذبة. هذا الإقصاء للقطاع الخاص جعل من الصعب تحريك عجلة النمو، وخلق فرص عمل حقيقية، وزيادة الإنتاج المحلي.

المقلق في الأمر أن القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الأردني ضعيفة للغاية، سواء في القطاع الصناعي أو الزراعي. فالبلاد تستورد معظم حاجاتها الأساسية، بما فيها الغذائية، ما يجعل الميزان التجاري في حالة عجز دائم. أما الزراعة، فتعاني من نقص في المياه، وغياب الاستراتيجية، وانخفاض مساهمتها في الناتج المحلي. في المقابل، لم يشهد القطاع الصناعي تطورًا حقيقيًا، بل تراجع بسبب ارتفاع كلفة الطاقة، وغياب الحماية، وغياب الدعم الحكومي الفعّال.

في ظل هذه المعطيات، يبرز تساؤل مشروع: هل هناك إرادة فعلية للإصلاح الاقتصادي، أم أن هناك مصالح داخلية وخارجية تتشابك وتُفضّل بقاء الاقتصاد في حالة ضعف وتبعية؟ البعض لا يتردد في الحديث عن "مخطط غير معلن" لإبقاء الأردن في غرفة الإنعاش، بحيث يبقى رهينًا للمساعدات، وغير قادر على بناء استقلال اقتصادي حقيقي. فكل محاولة للنهوض الذاتي تُقابل إما بالتشكيك، أو بالعرقلة، أو بوضع شروط دولية تُفقد الدولة حريتها في رسم سياساتها الاقتصادية.

لكن، وعلى الرغم من هذا الواقع المتشائم، فإن الأردن ليس محكومًا بالبقاء في هذه الدائرة المغلقة. فهناك حلول ممكنة وقابلة للتطبيق إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة. أول هذه الحلول هو تمكين القطاع الخاص ليقود الاقتصاد، من خلال تبسيط القوانين، وتخفيض الضرائب، وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار. كما أن دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتوجيه التمويل للشباب الريادي، يمكن أن يسهم في خلق فرص عمل وتحريك السوق الداخلي.

كذلك، يمكن للأردن أن يقلل اعتماده على الخارج من خلال تنويع مصادر الدخل، والاستثمار في الطاقة المتجددة التي يمتلك فيها مزايا طبيعية واضحة، مثل الشمس والرياح، والاستغناء عن استيرادها. إلى جانب ذلك، هناك فرص هائلة في السياحة الدينية والعلاجية، إذا ما تم استغلالها بطريقة احترافية كما فعلت دول أخرى.

إصلاح الإدارة الحكومية ضرورة لا تحتمل التأجيل. فالتغيير في الأشخاص والوجوه يجب أن يرافقه تغيير في التفكير والمنهجية، ومحاربة الفساد والمحسوبية، وحسن إدارة الموارد. لا يمكن الاستمرار في إدارة الدولة بعقليات تقليدية، بينما العالم من حولنا يتغير بسرعة مذهلة. يجب أن يكون هناك كادر اقتصادي كفؤ، بعيد عن المحاصصة السياسية والمناطقية والجهوية، ومؤمن بأهمية بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي بعيدًا عن التبعية.

في التجارب العالمية دروس ملهمة. فسنغافورة، التي كانت في يوم من الأيام مجرد جزيرة فقيرة بلا موارد، أصبحت اليوم من أغنى دول العالم بفضل السياسة الحكيمة التي ركزت على التعليم، والاستثمار، وتبسيط القوانين. وكذلك كوريا الجنوبية، التي خرجت من حرب مدمرة، لكنها نهضت من جديد بالعلم والصناعة والتصدير. حتى رواندا، التي عانت من إبادة جماعية، تمكنت من أن تصبح من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا من خلال محاربة الفساد وبناء بنية تحتية حديثة.

إذن، الطريق ليس مستحيلًا. الأردن قادر على الخروج من غرفة الإنعاش إذا ما توفرت الإرادة والإدارة والجرأة. لا تنقصه العقول ولا الموارد (بحسن إدارة الموارد)، بل يحتاج إلى قرار حاسم بتحويل مسار الاقتصاد من التبعية إلى الإنتاج، ومن الريعية إلى الكفاءة. الإصلاح ممكن، لكنه يتطلب تضحيات وشجاعة، وإيمانًا بأن الأردن يستحق اقتصادًا قويًا يليق بشعبه وتاريخه.