من الذي قرر تجاوز الدولة باسم الغيرة؟... وهل أصبح الأمن رهنًا للنوايا؟

 

•   هناك من يعتقد بأن مناصرة غزة والاصطفاف مع أهلها يمرّ عبر مسالك مظلمة تتقاطع مع خيارات الفوضى

•   الحماسة المجردة حين لا تؤطرها الحكمة قد تتحول إلى وقود لمغامرات قاتلة

•   الأردن بمنأى عن أثمان مغامرات لا طائل منها

•   ما نحتاجه اليوم هو تجديدٌ لعقد الوطنية

•   دعم فلسطين لا يكون إلا من خلال أدوات عقلانية لا عبر أنفاق المغامرة

•   الأردن اختار نهجًا قائمًا على الاحتواء والتفاهم السياسي في وقتٍ اصطدمت معظم الأنظمة الحاكمة مع الجماعة في محطات حاسمة

•   لم تعلن الجماعة يومًا موقفًا عدائيًا من النظام ولم تصدر عنهم دعوات صريحة أو مبطّنة لتقويض شرعيته أو التشكيك بمكانته
•    الملك الحسين الراحل تعامل مع الإخوان باعتبارهم مكوّنًا أصيلًا من مكونات المجتمع الأردني، وليسوا طارئًا أو تهديدًا بنيويًا

•   جذور العلاقة الممتدة لأكثر من سبعة عقود لا يمكن اقتلاعها بسهولة

•   الأردن كان – ولا يزال – الدولة العربية الوحيدة التي حافظت على وجود رسمي ومشروع للإخوان دون تصفية تنظيمية أو اجتثاث قانوني

قال الوزير الأسبق بسام العموش إن البيان الصادر مؤخرًا عن دائرة المخابرات العامة في الأردن شكّل صدمة قاسية، ذلك أنه سلّط الضوء على وجود فئة من المواطنين، ممن يُفترض أنهم ينتمون إلى هذا الوطن، باتوا يعتقدون – على نحو مقلق – بأن مناصرة غزة والاصطفاف مع أهلها يمرّ عبر مسالك مظلمة تتقاطع مع خيارات الفوضى والتصعيد غير المحسوب، مضيفًا أن هذا في ذاته يستدعي وقفة عميقة وإعادة تموضع معرفي حيال مفهوم النصرة وفعل التضامن.

وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن المشهد في غزة موجع، وأنّ المشاعر الفيّاضة المتدفقة من عمق الشارع الأردني تعبّر عن وحدة شعورية عربية وإسلامية خالصة، غير أنّ الحماسة المجردة، حين لا تؤطرها الحكمة، قد تتحول إلى وقود لمغامرات قاتلة، ومن هنا، فإن السؤال الجوهري لا يتعلق بما إذا كان التضامن مع غزة واجبًا – فهذا أمر محسوم في الوجدان الشعبي والسياسي الأردني – بل كيف يكون هذا الدعم؟... وما هي الأدوات المشروعة التي يمكن من خلالها إيصال هذا الدعم دون تهديد الأمن الوطني أو تجاوز الدولة؟.

وبيّن العموش أن البعض افترض، بدافع العاطفة أو تحت تأثير خطاب تحريضي، أنّ تصنيع سلاح في الداخل الأردني – خارج نطاق الدولة – يمكن أن يصب في مصلحة المقاومة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، غير أنّ هذا الطرح يتجاهل جملة من الحقائق الإستراتيجية، واللوجستية، والعسكرية، وفي مقدمتها أنّ غزة تملك منذ سنوات بنية تحتية متقدمة في التصنيع الحربي المقاوم، و"تحت الأرض" – كما أشار قادة من حركة حماس أنفسهم – توجد مصانع كاملة لإنتاج الصواريخ والأسلحة، فلماذا إذًا نُحمّل الأردن أثمان مغامرات لا طائل منها، بينما الطرف المعني في غزة ليس في حاجة إلى هذا المسار من الأصل؟.

وإذا افترضنا – على سبيل المجاز السياسي – أنّ هذه الأسلحة كانت موجهة إلى الضفة الغربية، فإن الإشكال هنا يتفاقم، فالضفة ليست على تماس مباشر مع الأردن فقط، بل إن أية محاولة لتهريب السلاح إليها تعني بالضرورة الاصطدام بالمؤسسة العسكرية الأردنية، وهذه الأخيرة ليست جهازًا أمنيًا طارئًا أو فصيلًا حزبيًا محدود الأفق، وإنما مؤسسة وطنية تأسست في قلب المشروع العربي، وقاتلت في اللطرون، والقدس والجولان، ودُفع من دمها الطاهر ما لم يدفعه أحد، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.

وطرّح العموش مجموعة من الأسئلة: من سمح لنفسه أن يتحرك خارج الدولة؟... ومن يقرر متى تبدأ المعركة ومتى تنتهي؟... وهل تحولت الدولة إلى كيان غير ذي صلة؟... وهل أصبح من حق أي مجموعة – حتى لو كانت تتحرك باسم الغيرة والنية الطيبة – أن ترسم سياسة الحرب والسلم؟، مضيفًا أن هناك ما يعرف في الشريعة الإسلامية بـ"مآلات الأفعال"، ويعني ببساطة أنه لا يجوز الإقدام على أي فعل قبل تقدير نتائجه، وهو ما تجاهله للأسف من تورطوا في هذه المغامرة.

وحذّر من أن الخطورة تظهر من خلال بعض المتورطين الذين ينتمون إلى تنظيمات دعوية وسياسية، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن كانوا لا يعلمون بنشاطات أعضائهم، فتلك كارثة، وإن كانوا يعلمون، فالمصيبة أعظم، إذ كيف لتنظيم يرفع شعار العمل المؤسسي والانضباط أن يفشل في ضبط أفراده؟... وما جدوى الولاء التنظيمي إذا لم ينعكس في أخلاق السمع والطاعة للمؤسسات الوطنية؟... ثم إن التنظيم الذي يطرد أعضاؤه لمجرد تغريدة أو اختلاف فكري، كيف لا يملك الجرأة على إعلان البراءة من أفراد قرروا تهريب السلاح وصناعة الصواريخ في دولة مستقرة محاطة بأخطار حقيقية على حدودها كافة؟.

وأكد العموش أن ما نحتاجه اليوم هو تجديدٌ لعقد الوطنية، وتأكيد على أن دعم فلسطين لا يكون إلا من خلال أدوات عقلانية، لا عبر أنفاق المغامرة، كما أن على الجهات التنظيمية والسياسية أن تكون في صفّ الدولة لا في موازاتها، وإلا فإننا نفتح أبوابًا خطيرة نحو صراعات داخلية تعيدنا إلى منطق الميليشيات لا الدولة، وإلى الاصطفاف العاطفي لا الرشد السياسي.

وأشار إلى أن العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السياسي الأردني لطالما شكّلت نموذجًا فريدًا ومركّبًا في آنٍ معًا، تجاوز في تمايزه حدود المألوف في الإقليم العربي، حيث اصطدمت معظم الأنظمة الحاكمة مع الجماعة في محطات حاسمة، بينما اختار الأردن، في معظم مراحله، نهجًا قائمًا على الاحتواء، والتفاهم السياسي، بل والتكامل الوظيفي في بعض الفترات.

واستطرد العموش قائلًا إنه منذ تأسيس فرع الجماعة في الأردن، لم تعلن الإخوان المسلمون يومًا موقفًا عدائيًا من النظام الهاشمي، ولم تصدر عنهم دعوات صريحة أو مبطّنة لتقويض شرعيته أو التشكيك بمكانته، وعلى العكس من ذلك، فقد ظلّ خطابهم السياسي والدعوي يؤكد على شرعية الدولة الأردنية، مع الدعوة إلى "عودة الأمة إلى الإسلام"، ليس في رقعة جغرافية بعينها، وإنما على امتداد خارطة العالم الإسلامي، في سياق يتجاوز الانغلاق القطري ويطمح إلى وحدة حضارية جامعة.

وصرّح بأن هذا الخطاب قد لقي تفهمًا من الملك الراحل الحسين بن طلال، الذي تعامل مع الإخوان باعتبارهم مكوّنًا أصيلًا من مكونات المجتمع الأردني، وليسوا طارئًا أو تهديدًا بنيويًا، وتجلّى هذا التفاهم في الممارسة السياسية لا في التنظير فحسب؛ ففي الوقت الذي كانت فيه أنظمة قمعية كالنظام المصري تمارس أبشع صور التنكيل والتعذيب بحق الجماعة، فتح الأردن أبوابه لقيادات وكوادر إخوانية فارّة من الاستبداد، ووفّر لهم الملاذ الآمن والحماية القانونية، بل وامتد ذلك إلى منح الجنسية الأردنية أو جوازات سفر تسهّل حركتهم وتنقلهم، كما حدث مع شخصيات عربية بارزة كالداعية المصري عبد العزيز علي، والرمز العراقي عبد الجبار البياتي، وآخرين.

وتابع أنّ الرعاية الأردنية تجاوزت البعد الضيق لتشمل مساحة أوسع من الرموز السياسية والدينية التي اضطهدتها الأنظمة العربية؛ حيث أُعطي العراقي نظمي أوجي، والتونسي محمد مزالي، جوازات سفر خاصة، تعبيرًا عن سياسة احتضان الإنسان العربي، لا الانحياز الضيق لأيديولوجيا معينة.

أما على صعيد جماعة الإخوان نفسها، فقد شكّلت مواقف الأردن الرسمية إزاء قضايا الأمة – ولا سيما القضية الفلسطينية – عنوانًا مشرقًا للتنسيق والتفاهم، تجلى بأبهى صوره في تعامل الملك حسين مع حركة حماس، وهي الجناح المقاوم المنبثق عن الجماعة الأم، ففي عام 1997، وعقب محاولة اغتيال القيادي خالد مشعل في عمّان على يد جهاز الموساد الإسرائيلي، اتخذ الملك الراحل موقفًا صارمًا لا لبس فيه، قائلًا: "حياة خالد مشعل في كفة، ومعاهدة السلام في كفة أخرى"، وهو ما عبّر عن تَغليب البعد القومي والوطني على الالتزامات الدبلوماسية المجحفة. وقد تم للملك ما أراد، وأُفرج عن مشعل في صفقة مشهودة.

كما استُقبل الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، بحفاوة ملكية بعد الإفراج عنه، حيث استقبله الملك في الطائرة، وقبّل رأسه، ووجه بنقله إلى المدينة الطبية لتلقي العلاج، في لفتة سياسية وإنسانية بالغة الدلالة، في مواقف لا يمكن عزلها عن زيارة القيادي في حماس موسى أبو مرزوق إلى القصر الملكي، بعد إطلاق سراحه من سجن "مانهاتن" الأميركي، وهو ما يعكس البعد الأخلاقي والاستراتيجي في تعاطي الدولة الأردنية مع القضايا الكبرى للأمة، في ظل تفاهم ضمني مع الإخوان.

ويُضاف إلى هذه السردية المضيئة موقف الملك حسين من القيادي الإخواني كامل الشريف، حين كان مطلوبًا لنظام عبد الناصر، فخيّره بين الاعتقال أو تعيينه سفيرًا في نيجيريا، ليحظى بالحماية القانونية تحت مظلة الدبلوماسية الأردنية، وهذا الموقف كما رواه الصحفي الراحل أبو إسماعيل، يكشف عن مدى توافر الإرادة السياسية لدى القيادة الأردنية لحماية التيار الإسلامي ما دام منضويًا تحت السقف الوطني، وغير منخرط في أجندات خارجية أو مغامرات انقلابية، كما قال العموش.

ولفت الانتباه إلى أن العلاقة لم تخلو من لحظات توتر، لا سيما بعد توقيع معاهدة وادي عربة عام 1994، والتي مثّلت لحظة فارقة أفضت إلى افتراق تدريجي في المسارات، وإن ظل ضمن الأطر القانونية والمؤسسية، فالإخوان عبّروا عن رفضهم للتطبيع، بينما حرص النظام على المضي في التزاماته الدولية، ما فتح الباب أمام بعض الأطراف الإقليمية والمحلية لصب الزيت على نار العلاقة، وتأليب المزاج السياسي، وتشويه صورة الجماعة، بما ساهم لاحقًا في مراكمة أزمة الثقة.

وتابع: ثم جاءت وفاة الملك الحسين عام 1999، وتولي الملك عبد الله الثاني الحكم في ظروف إقليمية معقدة، ثم اندلاع الربيع العربي، وما تبعه من إعادة هيكلة للمشهد الإقليمي وتحولات حادة في الاصطفافات والتحالفات، ليجد الطرفان نفسيهما أمام واقع جديد لا يشبه الماضي، ويستدعي إعادة نظر في أدوات التواصل وسبل التفاهم.

ونبّه العموش من أن جذور العلاقة الممتدة لأكثر من سبعة عقود لا يمكن اقتلاعها بسهولة، فالأردن كان – ولا يزال – الدولة العربية الوحيدة التي حافظت على وجود رسمي ومشروع للإخوان، دون تصفية تنظيمية أو اجتثاث قانوني، وهذا ما دفع أحد الصحفيين البريطانيين لسؤال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك: "لماذا تصطدمون بالإخوان بينما لا يفعل ذلك الملك حسين؟"، فأجابه متوعدًا: "سترون الدم للركب في عمّان قريبًا!"، غير أن هذا التهديد ظلّ كلامًا في الهواء، وخاب فأل المتربصين.

وقال العموش إن الخلافات – وإن وقعت – تظل محكومة بضوابط القانون، لا بمنطق الإقصاء أو التشويه، فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي توظيف التنوع السياسي والفكري في خدمة الدولة، لا جعله عبئًا عليها، ولا شك أن العودة إلى منطق الحوار، وتعزيز التفاهم الوطني، وتمتين الجبهة الداخلية، تبقى أولويات لا مناص منها، في ظل الأخطار المحدقة من المشروع الصهيوني، وخطر التهجير، وتغير الاتجاهات الدولية المفاجئة.