إيران تمحو سجل الندية وتبدأ مرحلة التعايش
قال أستاذ الدراسات الإيرانية والشرق الأوسط في الجامعة الوطنية الأسترالية الدكتور علم صالح إن طهران وواشنطن تخوضان جولة تفاوضية جديدة، تتمايز عن سابقاتها من حيث السياق البنيوي والتوازنات الإقليمية والدولية الحاكمة.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن إيران هذه المرة لم تعد طرفًا محاصَرًا يسعى للخروج من عنق الزجاجة بقدر ما أصبحت قوة إقليمية واقعية تفرض شروطًا تفاوضية تستند إلى تراكُم قدراتٍ استراتيجية، وتحولاتٍ جيوسياسية أفرزت نظاماً إقليمياً جديداً قيد التشكُّل.
وبيّن صالح أنه أُعيد ترتيب الأولويات الأمريكية، حيث تحوّل مركز الثقل الاستراتيجي من الشرق الأوسط إلى المحيطين الهندي والهادئ، في ضوء التحديين المتصاعدين المتمثلين في الصين وروسيا، وهذا الانكفاء النسبي للولايات المتحدة عن المنطقة، والمصحوب بإرادة لخفض الأعباء الأمنية والسياسية، أعاد تعريف مقاربة واشنطن تجاه طهران، بعيدًا عن الاحتواء الصارم، وقريبًا من منطق التهدئة المدروسة وإدارة التهديد.
أما في الفضاء الإقليمي، فقد ساهمت مجموعة من التطورات المفصلية في إعادة تشكيل البيئة المحيطة بإيران، بدءًا من الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثته الحرب في غزة وما خلفته من ارتباك في المعادلة الأمنية الإسرائيلية، مرورًا بالتحول في تموضع النظام السوري وعودته النسبية إلى الحظيرة العربية، وانتهاءً بالمصالحة الإيرانية - السعودية التي رعتها بكين، والتي جسدت لحظة فارقة في التوازنات الخليجية والإيرانية على حد سواء، وكرّست انفتاحًا سعوديًا حذرًا على مبدأ "التعايش الواقعي" مع الجار الإقليمي الثقيل، وفقًا لما صرّح به صالح لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وأشار إلى أن طهران في هذه الحالة تفاوض من موقع الفاعل الاستراتيجي الذي بات يمتلك أوراق ردع متراكمة، فقد بلغت إيران فعليًا "عتبة الامتلاك النووي"، دون أن تتجاوزها علنًا، وهو تموضع يُمكّنها من المناورة السياسية من جهة، ومن تحقيق الردع المتبادل من جهة ثانيةـ فضلًا عن كونها استطاعت توجيه ضربتين محسوبتين – وإن لم تكونا حاسمتين – إلى إسرائيل، ما عزز من مصداقية قدراتها العسكرية فاعلًا لا يُستهان به في معادلات الردع الإقليمي، أما داخليًا، فقد رسّخت البنية العسكرية – الأمنية الإيرانية سيطرتها على مفاصل الدولة، الأمر الذي منح صانع القرار مساحة تفاوضية أكثر ثقة ومرونة.
ورجّح صالح أن تصرّ إيران على الحفاظ على البنية التحتية لبرنامجها النووي دون تفكيك، مع القبول بقيود مؤقتة يمكن التراجع عنها تقنيًا وسياسيًا متى ما اقتضت الحاجة، كما ستسعى إلى تحصين قدراتها الصاروخية، لاسيما تلك التي يزيد مداها عن ألفي كيلومتر، باعتبارها إحدى الركائز الجوهرية في منظومتها الردعية، غير أن البعد الاقتصادي سيشكّل عنصرًا مركزيًا في سلّة المطالب الإيرانية؛ إذ ستحرص طهران على انتزاع مكاسب اقتصادية قابلة للتحقق، ولا سيما في ما يخص العقوبات النفطية المفروضة بموجب البندين 1021 و1022 من الكونغرس، إضافة إلى القيود المالية المرتبطة بنظام SWIFT. ولعل أحد أهدافها الرئيسية سيكون تفريغ "آلية الزناد" من محتواها، عبر منع تفعيلها أو على الأقل تأجيلها ضمن إطار قانوني يُضعف أثرها الإلزامي.
وذكر أن الحسابات الأمريكية في هذا الصدد تنطلق من معادلة مزدوجة؛ فهي، من جهة، تسعى إلى منع إيران من التحول إلى قوة نووية عسكرية فعلية، من خلال تمديد "زمن الاختراق النووي" إلى ما يتجاوز الإثني عشر شهرًا، بما يتيح لواشنطن هامشًا كافيًا للردع أو التدخل عند الحاجة، ومن جهة أخرى، تفضّل الإدارة الأمريكية الإبقاء على جملة من العقوبات، لا بوصفها أداة عقاب، وإنما كورقة ضغط دائمة تُستخدم عند الحاجة، خاصة في ظل حالة الشك العميقة في سلوك إيران المستقبلي.
ولفت صالح الانتباه إلى أن الهواجس الأمريكية لا تقتصر على المسار النووي، فهي تتعداه إلى المجال العسكري التقليدي، حيث تسعى واشنطن إلى تقييد عمليات تطوير الصواريخ الإيرانية، ومنع حصول طهران على أسلحة متطورة يمكن أن تغير ميزان القوى التقليدي في المنطقة، كما تبدي الولايات المتحدة قلقًا متصاعدًا إزاء نفوذ طهران في بعض الجماعات الحليفة، كحزب الله، والحوثيين، والحشد الشعبي، مضيفًا أن المفارقة هنا تكمن في أن هذا النفوذ، على الرغم من كونه يشكل تحديًا أمنيًا، إلا أنه قد يُوظف في إطار إدارة النزاعات وخفض التصعيد بطريقة غير مباشرة، بما يخدم الاستراتيجية الأمريكية في تقليص الانخراط المباشر وخفض التكاليف الاستراتيجية.
وحذّر من أن هذه المسارات المتشابكة تصطدم بجملة من التحديات الهيكلية، أولها رفض الكونغرس لأي اتفاق لا يتضمن تنازلات إيرانية لا رجعة فيها، وهو ما يُضعف من هامش المناورة لدى الإدارة الديمقراطية، ويضعف من مصداقيتها التفاوضية أمام الطرف الإيراني، ثانيها، الضغط الإسرائيلي، والذي يتجلى من خلال أدوات اللوبي داخل واشنطن، وعبر التهديد بالقيام بعمل عسكري أحادي في حال شعرت تل أبيب أن التفاهمات الأمريكية - الإيرانية قد تمس بتفوقها النوعي، وثالثها، انعدام الثقة المتراكم لدى طهران تجاه أي التزام أمريكي طويل الأمد، خاصة في ضوء تجربة انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وهو ما سيجعل طهران تطالب بضمانات تنفيذية تتجاوز حدود التعهدات السياسية التقليدية.
وذكر أن الخروج من حلقة الفشل المفاوضاتي المزمن لا يمكن أن يتحقق عبر عقلانية حسابية تقليدية، فهو يتطلب تبنّي نمط جديد من "العقلانية المركّبة"، والتي تأخذ في الحسبان تعقيد المصالح، وتشابك المخاوف، وتداخل الملفات، ومثل هذا النمط قد يمكّن الطرفين من صياغة تسوية انتقالية، لا تسعى إلى حل جذري للصراع، وإنما إلى إدارة مخاطره وتقنين أبعاده، على قاعدة أن "الحد من الخسائر" أكثر واقعية من "تحقيق الانتصار الكامل".
واستطرد صالح قائلًا إن أي نجاح محتمل لهذه الجولة من المفاوضات قد يشكّل – إن أحسن تصميمه وتنفيذه – نموذجًا تجريبيًا لكيفية إدارة التوترات المعقدة في بيئة دولية ما بعد القطبية الأحادية، ومن شأنه أن يعيد تعريف العلاقة بين الخصمين، لكن ليس من خلال كسر العداوة، وإنما عبر تنظيمها وتحييد أخطارها، وهي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة في عالمٍ يتآكل فيه منطق الحسم وتتعاظم فيه الحاجة إلى التوازنات الدقيقة.