غرايبة يكتب: كتاب وقارئ 3 .. القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث

  إبراهيم غرايبة

القدس مدينة واحد وعقادئد ثلاث
تأليف كارن آرمسترونغ. ترجمة فاطمة نصر ومحمد العناني
القاهرة: سطور، 1998

لقد أنشأ اليبوسيون الكنعانيون مدينة القدس حوالي العام 3000 ق.م وأسموها أورسالم، لتكون واحة للسلام يظل المدن الكنعانية التي كانت في حرب دائمة مع بعضها البعض. كانت أورسالم مدينة فقيرة قليلة الموارد لكنها كانت مركز الكنعانيين للحج ورمزا للسلام فيما بينهم. كانت كل مدينة مملكة مستقلة وتسيطر على ما حولها من مناطق ريفية، ويلتقي الناس في اورسالم التي يديرها اليبوسيون وهم أشراف الكنعانيين (مثل قريش في العرب) ويصعدون جبل صهيون ويقدمون القرابين ويقضون مصالحهم ويحلون مشاكلهم.
كانت القدس موضوعا لكتب ودراسات كثيرة، وقد وجدت كتاب كارين آرمسترونغ "القدس مدينة واحدة وثلاثة أديان" يستوعب تاريخ المدينة بمستوى متقدم من الكفاءة والنزاهة، وسأقدم عرضا لتاريخ المدينة معتمدا على هذا الكتاب بشكل أساسي.

كان الإسرائيليون ينظرون إلى أورشليم باعتبارها مدينة أجنبية، تنتمي في المقام الأول إلى اليبوسيين، وقد ارتبط الآباء الأوائل بمدن بيت إيل، والخليل/ حبرون، وشكيم وبير سبع، لكنهم لم يلاحظوا أورشليم في أسفارهم وترحالهم.

التقى النبي إبراهيم بملك مدينة سالم في حدود العام 2000 ق.م وكان اسمه ملكي صادق، وقدم الملك إليه خبزا ونبيذا. وقدم إبراهيم للملك ضريبة العشر وقبلت مباركة إلهه، إيل عليون (الإله العلي) وما أن حلّ بنو إسرائيل في أورشليم حتى ارتبط يهوه أيضا بالإله بعل إيل عليون، الذي كان يعبده الكنعانيون على جبل صهيون.

في عهد النبي صموئيل بعد موسى بأربعمائة سنة تجمعت القبائل ممثلة بقضاتها واختير شاؤول (يسمى في القرآن الكريم طالوت) ملكا، والذي أقام ممكلة واسعة نسبيا ممتدة على التلال المحيطة بنهر الأردن، لكن انشق عنه داود وأقام مملكة في الخليل بمعونة الفلسطينيين والعبيرو، وبعد مقتل شاؤول وابنه ثم مقتل ابنه اشبعل الذي تولى الملك بعده تقدم داود إلى مملكة شاؤول باعتباره زوج ابنته، وبويع داود ملكا لإسرائيل الموحدة. يرجح أن داود عندما دخل القدس كان معنيا فقط بتوحيد مملكتي إسرائيل وإزالة الجيب اليبوسي بينهما، ولم يخرج منها أهلها، اكتفى فقط بالاستيلاء على قلعتها، وأقام اليهود واليبوسيون معا. كان وزراء وموظفوا الدولة وقادة الجيش من اليبوسيين وكان رئيس الكهنة صدوق اليبوسيّ، وحسب "التناخ – سفر الملوك) فقد دبر داود مقتل القائد أوريا ليستولي على زوجته شيبا التي انجب منها ابنه سليمان.

لم يكن للقدس أهمية دينية لدى اليهود، وقد بدأ الاهتمام بها بعد أن اتخذها داود مقرا لحكمة وللتابوت ذي القداسة عند اليهود، فصارت بذلك بيتا للإله يهوه، واقام سليمان ابن داود معبدا له في صهيون. وضاعف سليمان المدينة وبنى فيها قصورا وقلاعا ومقرات للحكم والإدارة كما توسع تجاريا من خلال خليج العقبة والبحر الأحمر، وازدهرت مملكته.

وحسب سفر الملوك أحد أسفار العهد القديم والذي كتب في حدود العام 1000 ق.م فقد بنى سليمان معابد لآلهة جميع زوجاته في اورشليم، مثل عشتورت آلهة الصيدونيين، وملكوم إله العمونيين، وكموش إله المؤابيين كما أقيمت مذابح مكرسة للإلهين ملكوم وكموش على التلال الواقعة شرق أورسالم. ويبدو أن التوحيد لم يسد إلا في القرن السادس ق.م. أي بعد موسى بثمانمائة عام. وبعد موت سليمان ورث الملك ابنه رحبعام، لقد ورث مملكة فقيرة معزولة، واستقلت المملكة الشمالية عنها، ونشبت الحرب بين إسرائيل الشمالية ويهوذا الجنوبية واستمرت خمسين عاما.

تمثل طقوس واحتفالات ومعابد أورسالم الكنعانية الصراع بين الخير والشرّ، ويمثل جبل زافون أو صهيون مكان الإله بعل بعد انتصاره على قوى الموت والعماء، وفي طقوس الاحتفال هذه كانوا يجلسون الملك مكان الإله ويمسحون رأسه بالزيت، ويجددون بيعته، وقد استعار اليهود الطقوس نفسها ونسبوها لـ يهوه. وتواصلت عبادة الآلهة المتعددة في أورشليم بالإضافة الى التوحيد حتى في بني إسرائيل، فالملك آخاب (إيهاب) كان يعبد بعل، وقد زوج ابنته عثليا من يورام ابن الملك يهوشافاط، وكانت هي أيضا تعبد بعل مثل أبيها وأمها الملكة إيزابل. وفي عام 863 ق.م اجتاحت الامبراطورية الآشورية المنطقة واستتبعتها، لكن ظلت يهوذا مستقلة لأنها لم تكن مفيدة للآشوريين.

في عام 841 ق.م توفي ابن الملكة عثليا وصارت هي وصية على العرش، وحاولت إبادة الأسرة الداودية، لكن الكهنة توجوا حفيدها يهوآش وقتلوها وهدموا المعبد الذي أقامته للإله بعل.

في عام 740 ق.م ظهرت النبوءة المشهورة للنبي اشعياء والمدونة في الكتاب المقدس باسم "سفر اشعياء" وما تزال هذه الرؤى تؤثر في السياسات المرتبطة بالقدس حتى يومنا هذا. وفي عام 733 ق.م احتلت آشور المنطقة، وصارت يهوذا تابعة للآشوريين، وبدأت موجة جديدة من الحماس للعبادات المرتبطة بالشمس والقمر والنجوم في مملكة يهوذا، وهي العبادات التي بدأ ظهورها في تلك الفترة في الشرق الأدنى. وفي عام 722 ق.م تمردت سامرة على الحكم الآشوري، لكنه تمرد كان مصيره الهزيمة والدمار، وتحولت مملكة إسرائيل إلى مقاطعة آشورية، وهجّر الأشوريون بقيادة شلمنآسر 27 ألف شخص من بني إسرائيل إلى آشور. وانقطعت أخبارهم إلى الأبد.

في عام 705 حدث تمرد ثاني في أورشليم بعد وفاة سرجون، لكن ابنه سنحاريب أرسل جيشا احتل شرق الأردن وفينيقيا وحاصر القدس لكنه لم يدخلها بسبب انتشار الوباء في صفوف الجيش، وتحولت اورشليم بقيادة حزقيا إلى مملكة صغيرة فقيرة، ثم خلفه ابنه منسّى الذي أعاد الطقوس والمعابد التعددية للنجوم والآلهة الأخرى غير يهوه. وفي عهد الملك ايشيا بن منسى جدد معبد سليمان بعد 300 سنة من إقامته، وقد عثر في أثناء عمليات الترميم على لفافة هي ما يعرف اليوم باسم سفر التثنية، وأدار حملة إصلاح ديني لنبذ كل الطقوس المتصلة بغير الإله يهوه، وكسرت تماثيل ورموز الآلهة الأخرى مثل بعل وعشتار وملكوم وكمش، والتي كان لها معابد وطقوس في أورشليم. وفي تلك الفترة ظهرت في العالم ديانات البوذية والتاوية الزرادشتية.

في عام 609 ق.م اجتاح فرعون المنطقة وانتصر على اليهود في معركة مجدو، وقتل يوشيا في هذه المعركة. وفي 605 ق.م انتصر نبوخذ نصر ملك بابل على المصريين والآشوريين وصارت يهوذا جزءا من مملكته. وفي 597 ق.م دخل نبوخذ نصر أورشليم بعد حصار دام 3 أشهر، ونهب المعبد، ورحّل قادة يهوذا الى بابل، ولم يبق فيها إلا الفقراء، فقد شمل الترحيل أسرة الملك والديوان الملكي ولحكومي وعشرة آلاف من الأرستقراطيين والعسكريين والحدادين وأصحاب الأشغال المعدنية. كان ذلك سياسية متبعة في الامبراطوريات القديمة، لأجل منع الثورات وصناعة الأسلحة. ولم تكن سياسة تخص اليهود. ولا بد أنه جرى ترحيل جميع قادة ونخب الأمم والممالك في المنطقة.
في عام 586 ق.م اجتاح الجيش البابلي أورشليم مرة أخرى بعد حصار طويل بسبب تمرد قاده الملك صدقيا، لكن في هذه المرة دمر البابليون المدينة وأعدموا أبناء الملك وقلعوا عينيه ثم سيق أسيرا إلى بابل، واحرقت المعابد والمنازل. واختفى التابوت إلى الأبد! وتحولت المدينة إلى مكان مدمر ومهجور.

وفي 582 ق.م عاد الى أورشليم مجموعة من الضباط والجنود الذين كانوا قد فروا إلى شرق الأردن وحاولوا استعادة المدينة لكنهم فشلوا، وفرّ قائدهم إسماعيل مرة أخرى إلى عمون.

وفي المنفى جاءت حزقيال رؤياه الشهيرة والمثبتة في الكتاب المقدس بعد اعتكاف في منزله استمر خمس سنوات. وكانت هذه الرؤيا في عام 592 ق.م أي قبل تدمير المدينة بست سنوات، وقد تنبأ بتدمير المدينة. وفي 538 ق.م اجتاح الملك الفارسي قمبيز المنطقة، وأعاد جميع تماثيل الآلهة الى معابدها في مدنها الأصلية وأمر بإعادة بناء المعابد التي هدمت في أورسالم وترميم آنيتها وقطع الأثاث المستخدمة في الشعائر الدينية. وعاد أكثر من 40 ألف يهودي منفي إلى أورشليم، وكان معظمهم قد ولد في بابل وتعود على حياتها المتقدمة على أورشليم الخربة المهجورة والمدن الاسرائيلية الأخرى، وأعيد بناء المعبد الثاني بقيادة وتحريض النبي حجي.

ظلت المدينة فقيرة ومحدودة السكان، ثم تعرضت للتدمير في عام 485 ق.م في الاضطرابات التي مرت بها الامبراطورية الفارسية، فطلب نحميا الذي كان يقيم مع الجالية اليهودية في بابل من الملك أن يسمح له بالسفر الى اورشليم لإعاد بنائها، وذهب في العام 445 ق.م مفوضا من الملك وموعودا بالدعم لبناء المعبد. وفي عام 398 ق.م عاد عزرا الى اورشليم، وكانت المدينة عند عودة نحميا إليها شبه مدمرة، ولا يحب أكثر الناس الإقامة فيها، فاستنفر نحميا الناس والكهنة لإعادة بناء وترميم أسوار المدينة وتحصيناتها، وحث الشعب خارج المدينة على الإقامة فيها، ثم أجريت قرعة لاختيار متطوعين ينتقلون الى المدينة للإقامة والحراسة فيها.

كان عزرا يعمل وزيرا في البلاط الفارسي مسؤولا عن الشؤون اليهودية، وفي عام 398 ق.م أرسله الملك أرتخشتا الثاني إلى يهوذا، لمصاحبة اليهود الراغبين في العودة إلى ديارهم، وتسليم الهدايا من الجالية اليهودية في بابل إلى المعبد، وبحث أحوال يهوذا، وتعليم الشريعة لليهود في أرض الشام.

حدد عزرا الانتماء إلى إسرائيل بالذين نفوا إلى بابل وذريتهم، وطلقت النساء من خارج هذه الفئة المتزوجات من الإسرائيليين "الجولة" وطرد الذين لا تنطبق عليهم الصفات الإسرائيلية خارج أورشليم، وأقاموا معبدهم الخاص على جبل جرزيم، وسموا السامرة. وبدأ منذ تلك اللحظة استبعاد الشعوب الأخرى بلا هوادة ولا رحمة، على ما في ذلك من تناقض مع عدد من أهم تقاليد بني إسرائيل. وأصبح هذا القانون في غضون الأجيال الثمانية التالية يمثل ركيزة أساسية في قيم المعبد الروحية لشعب يهوذا.

كان انتصار الاسكندر الأكبر على الفرس في عام 333 ق.م نهاية لفترة ذهبية لليهود في ظل الفرس دامت اكثر من مائتي عام، وبرغم استمرا ر الوضع كما كان في العهد الفارسي، فقد بدأت تنشأ صراعات ثقافية خاصة مع تغلغل الهيلينية في الشرق.

في عام 301 ق.م وقعت يهوذا وسامرينا وفينيقيا والسهل الساحلي في قبضة جيوش بطليموس الأول، وأقام البطالمة مجموعة من المدن الجديدة على غرار المدن اليونانية، وتعلم ابناء هذه المستوطنات اللغة اليونانية، واكتسبوا الطابع الهليني. كانت هذه المدن تفصل في إدارتها بين الدين والحكم، وتهتم بالرياضة والأدب، وبطبيعة الحال فقد دار صراع بين أنصار الثقافة اليونانية والمحافظين. كان يقود تيار الثقافة اليونانية عائلة الطوبيين ويقود المحافظين عائلة العونيين من سلالة الملك صدوق.

في عام 200 ق.م تعرض أورشليم لحصار طويل قادة انطاكيوس، ودمرت المدينة. وحولت إلى مدينة يونانية خالصة، وكان الكثير من اليهود معجبين بالمثل الأعلى اليوناني، ومبدأ المواطنة العالمية، والتوفيق بين اليهودية والهيلينية، وفي مواجهة التمرد اليهودي أصدر انطاكيوس مرسوما في عام 170 ق.م يحظر ممارسة العبادات اليهودية في يهوذا، وكان ذلك بمثابة أول اضطهاد ديني في التاريخ، لكن تحول التمرد إلى ثورة مقدسة، واضطر أنطاكيوس إلى إلغاء المرسوم في العام 164 ق.م وتمكن القائد الهاشموني يهوذا بن ماتاتياس والملقب بمكابيوس من السيطرة على أورسالم. وفي عام 152 ق.م حظي الهاشمونيون بالاعتراف الرسمي.

دمر الامبراطور الروماني بومبي أورشليم وصفى مملكة الهاشمونيين، وإن ظل كبير الكهنة منهم، وصار الرجل الأقوى في يهوذا هو قائد الجيش ناتيبار الأدومي والذي ينتمي إلى أسرة أدومية اعتنقت اليهودية مؤخرا، وفتت المملكة إلى عدة ممالك بعضها صارت للسامريين وغير اليهود، وسمح لغير اليهود أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يعود الذين هجرهم اليهود من بلادهم إليها. وعندما تولى يوليوس قيصر الامبراطورية زادت قوة انيتباتر منافس الهشمونيين وصار هو وأولاده قوة حاكمة في المدن اليهودية. قتل يوليوس قيصر في عام 44 ق.م وفي العام نفسه قتل أيضا انيتباتر.

في عام 40 ق.م اجتاح البارثيون الفرس المنطقة، ونصبوا الأمير الهاشموني انتيجونوس حاكما على اورشليم، واسروا فاصائيل بن انتيباتر وأجبروه على الانتحار. لكن هيرود ابن انتيباتر فرّ إلى روما وأقنع مجلس الشيوخ في روما بتنصيبه حاكما لأورشليم، ثم قاد جيشا بمعونة مارك أنطونيو واستعاد أورشليم، لكن قتل آلاف اليهود وأعدم انتيجونوس. وكانت هذه أول مرة يطبق فيها الرومان حكما بالإعدام على ملك أخضعوه لحكمهم.

في العام 6م بعد وفاة هيرود وعجز ابنه بدأ الرومان يحكمون أورشليم مباشرة، لكن في عام 26 م حدثت ثورة عارمة ضد بيلاطس النبطي الوالي الروماني في القدس، وبعد أربع سنوات دخل أورشليم شاب يركب حمارا هو (يسوع المسيح) واتجه الى المعبد وطرد الصيارفة والبائعين من ساحته، فأمر قيافا كبير الكهنة بالقبض عليه، وعند محاكمته اتهم بأنه أقسم أن يدمر المعبد، لكن أقوال الشهود تضاربت ما أدى إلى اسقاط التهمة، لكن قيافا نجح في إدانته بتهمة التجديف في الدين، ولما كان اليهود لا يملكون سلطة الحكم بالإعدام أرسل يسوع إلى بيلاطس حتى يصدر الحكم عليه، وأمر بيلاطس بجلده وإعدامه صلبا، وبأن يحمل صليبه من قصر الوالي عبر طرقات أورشليم إلى تل جلجثة خارج أسوار المدينة.

ونشأت طائفة يهودية جديدة سميت (المسيحيون) هكذا كان ينظر إلى المسيحية حتى المسيحيون أنفسهم لم يكونوا يرون أنفسهم أتباع دين جديد، وواصلوا حياتهم باعتبارهم يهودا يقيمون الشعائر كاملة غير منقوصة، وكانوا يترددون على المعبد معا كل يوم للصلاة، وأطلقوا على أنفسهم اسم الفقراء، مثلما فعلت طائفة قمران، فتنازلوا عمن ممتلكاتهم، وعاشوا حياة جماعية، يتوكلون فيها رزق الكفاف على الرب مثل طيور الجو وزنابق الحقل، وكان ورعهم ذا جاذبية شديدة، ويحظى بإعجاب الكثير من اليهود، وكانوا يؤمنون بأن المسيح سوف يرجع بمجد السماء.

بدت أورسالم في حالتها الجديدة مكانا مدمرا يصعب التصديق أنه كان يوم ما مدينة عامرة، وأمر الأباطرة بالبحث عن كل اليهود من سلالة داود وأعدامهم، لكن سمح الرومان للملك جاريبا أن يحتفظ بلقبه ويحكم الجليل، وتحولت أورشليم إلى مدينة رومانية خالصة، أقيمت فيها المعابد والطقوس الرومانية.

وبدأ المسيحيون اليهود بقيادة سمعان ابن عم يسوع بالعودة الى القدس من بيلا، واتخذوا لهم مكانا يتجمعون فيه ويقال إنه المكان الذي كان الحواريون يلتقون فيه بالمسيح، وكان هؤلاء يختلفون عن المسيحيين الذين اعتنقوا المسيحية على يد بولس، فهم يعرفون المسيح منذ طفولته ولا يتصورونه إلها، وفي غضون هذه الفترة انضم كثير من اليهود إلى المسيحية، وربما كانت فكرة المسيح المصلوب قد دعمت أملهم في إحياء دينهم القديم.

لم يكن المسيحيون من غير الإسرائيليين يهتمون بأورسالم، بل كان اهتمامهم منصبا على المدينة السماوية على نحو ما وصفه يوحنا اللاهوتي دون اكتراث بالمدينة الأرضية نفسها. وكان يسوع قد أوضح أن الأماكن المقدسة القديمة مثل أورسالم وجبل جرزيم وبيت إيل قد أصبحت غير ذات موضوع وتجاوزها الزمن، فـ السكينة (شاكيناه) انسحبت من دور المعبد.

في عام 130م قرر الامبراطور هادريان إعادة بناء مدينة جديدة بدل امن اورسالم المدمرة، وسماها ايليا كابيتولينا، وأصدر هادريان مجموعة من المراسم بهدف دمج اليهود في الامبراطورية والغاء التميز الذي يتمسكون به، مثل منع الختان ومنع الاجتماعات الدينية اليهودية العامة، ومراسم تعيين الربانيين، لكن اليهود دخلوا في ثورة مسلحة ضد هادريان استمرت 3 سنوات، وقد انتهت بتدمير قلاعهم (50 قلعة) وقراهم (985 قرية) وألحق اليهود بجيوش هادريان خسائر فادحة، كان انتصاره مؤلما، وأصبحت إيليا مدينة وثنية أمممية، يتعذر التمييز بينها وبين أي مستوطنة رومانية أخرى، وصار الوجود اليهودي فيها أثرا من الماضي. وقد شمل حظر اورشليم على اليهود المسيحيين أيضا الذين كانوا مازالوا ينظر إليهم على أنهم طائفة يهودية، لكن سمحوا للمسيحيين الأمميين ببناء كنيسة متواضعة.

لم يكن المسيحيون مهتمين بالحج الى اورسالم وزيارتها، وكانوا يميلون الى ما جاء في انجيل متى وانجيل يوحنا من أن أورشليم أصبحت المدينة الخاطئة لأنها رفضت المسيح، وكان يسوع يقول إن الناس لن يجتمعوا في المستقبل في أماكن مقدسة مثل أورشليم لكنهم سيعبدون في الروح وفي الحق، فعبادة الأماكن المقدسة والجبال المقدسة كانت من سمات الوثنية اليهودية، وكان المسيحيون يحرصون على تجاوز هذه وتلك.

كان الكاهن الرئيس لفلسطين هو كاهن قيسارية وليس كاهن ايليا، وعندما استقر أوريجن العالم المسيحي الذائع الصيت في فلسطين عام 234م اختار قيساريا لإنشاء أكاديميته ومكتبته فيها، وعندما قام برحلاته كان اهتمامه الأساسي علميا وتاريخيا، ولم يكن يتوقع أي تجربة روحية من زيارة المواقع.

أصبح يوزيفوس أسقف قيسارية عام 313م وكان أفلاطونيا مثل أوريجن، ولم يكن يبدي اهتماما بالأماكن والمزارات المقدسة، بل يرى أن المسيحية تخطت هذه الالوان البدائية من الحماس الديني، وكان يقول إن فلسطين لا تختلف في شيء عن غيرها.

حدث تغير مهم في ذلك العام فقد انتصر قسطنطين على منافسه ماكسينتيوس في موقعة جسر ميليفيان عام 312م وقال إن نصره يرجع إلى مؤازرة إله المسيحيين. وفي عام 313م أعلن قسطنطين أن المسيحية أصبحت إحدى الديانات المعترف بها في الامبراطورية الرومانية، هكذا خرجت المسيحية من الاضطهاد والتهميش، وأدى ذلك إلى تغيير جذري في زاوية نظر المسيحيين إلى أنفسهم وإلى ايليا.

بدأت القدس في منتصف القرن الرابع تتحول إلى مدينة مسيحية مقدسة، وبدأ المسيحيون في وضع رواياتهم الخاصة عن المكان، وهي القصص التي وضعته في قلب حياتهم الروحية، فتذكروا ما جاء في الأثر، أي في التراث اليهودي – المسيحي من أن آدم قد دفن في جلجثه، وسرعان ما أصبحوا يعتقدون أن إبراهيم قاد ابنه إسحق للتضحية به هناك، أي أن هذا المكان المقدس المسيحي الجديد بدأ يوحي بنفس المعتقدات التي ارتبطت بالمعبد اليهودي، وأصبح مركزا رمزيا مست فيه القوة الإلهية عالم البشر الضعيف، بأسلوب فذّ فريد، وهذا يمثل بداية جديدة للإنسانية، وتحقيقا لدين إبراهيم وعصرا جديدا في التاريخ المسيحي. صارت تتجلى في الخريطة الجغرافية المقدسة للعالم المسيحي والتي نشأت وتطورت منذ عهد قسطنطين، تصور فلسطين باعتبارها الأرض المقدسة، الخريطة لا تشير فحسب إلى المواقع المذكورة في الكتاب المقدس، بل تبين كذلك ما شيده المسيحيون بعد ذلك من مبان وآثار وأديرة، فحولوا البلاد إلى مكان مقدس.

وفي قلب الخريطة تقع أورشليم، وقد كتب تحتها "مدينة أورشليم المقدسة" على نحو ما أصبحت تشغل قلب العالم المسيحي كله، وما إن طوى القرى الرابع صفحته حتى انصهرت المدينتان في المخيلة المسيحية كما يتضح من فسيفساء كنيسة القدس بودنزيانا في روما، حيث نرى صورة المسيح وهو يعلم تلاميذه وحوارييه في السماء ومن خلفه تظهر بوضوح وجلاء المباني الجديدة التي بنيت في جلجثه.

كان الحاج القادم من بوردو قد زار جبل المعبد باعتباره المكان الذي قتل فيه زكريا، وشاهد بقع الدم على الرصيف، لكن المرشدين صاروا يطلعون الحجاج على المذبح الذي قتل فيه زكريا في كنيسة الشهيد التي بناها قسطنطين، وكذلك أصبح المذبح الذي قيد إبراهيم فيه ولده، والمذبح الذي قدم فيه ملكي صادق قرابينه، وهما من الأحداث التي كانت ترتبط في يوم من الأيام بصهيون يقعان في جلجثه، وكذلك أصبحت جلجثه المكان الذي يوجد فيه القرن الذي يتضمن الزيت الذي مسح به على رأس داود ورأس سليمان، وخاتم الملك الذي كان يضعه سليمان في إصبعه.

كان دخول الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس عام 638 وهو على جمله الأبيض وبملابسه البسيطة؛ يمثل لدى المسيحيين صورة الفقر المقدس. عبّر عمر عن مبدأ التراحم التوحيدي أكثر من أي ممن فتحوا أورشليم قبله، فقد أشرف على أكثر غزو للمدينة سلاما، ودون إراقة دماء، لقد كان فتحا لم تشهد مثله المدينة في تاريخها الطويل والمأساوي، لم يحدث قتل أو تدمير للممتلكات أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، ولم يطرد السكان ولا نزعت ملكياتهم، ولم يجبروا على اعتناق الإسلام. لقد بدأ الإسلام بداية حسنة.
كانت دكة هيرود وجبل المعبد ومقدسات اليهود مهملة وتعرضت للإهانة، وقد شرع عمر فورا بإزالة ما لحق بها من أذى، واستدعي كعب

الأحبار الذي كان قد أسلم من قبل، وشارك اليهود في تطهير المكان، ويقال إن عمر أحضر معه مجموعة من حاخامات طبريا. وبدأوا بإعادة المشهد اليهودي والتأسيس لمشهد إسلامي. لكن اليهود لم يهتموا بالصخرة إلا بعد خمسين عاما. وطّن عمر في القدس سبعين عائلة يهودية استدعيت من طبريا، وسمح لهم ببناء معبد مكان معبد سابق كان قد دمر.

ظهرت قصيدة عبرية في نهاية القرن السابع ترحب بالعرب المبشرين المسيح المنتظر، وتترقب آملة أن يجتمع شمل يهود الشتات وأن يعاد بناء المعبد، وحينما لم يصل المسيح المنتظر استمرت نظرة اليهود الراضية عن الحكم الإسلامي في إيليا/ أورساليم. في خطاب كتبه حاخامات أورشليم في القرن الحادي عشر، تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حينما سمح لمملكة إسماعيل أن تفتح فلسطين وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى أورشليم، حيث كان في صحبتهم أناس من أبناء إسرائيل، أرشدوهم إلى مكان المعبد، وتوطنوا هناك معهم إلى ذلك الحين.

وكما تذكر آرمسترونغ بدأت تتداول في عالم الإسلام مقولات عن قدسية المكان يبدو واضحا تأثرها بالإسرائيلييات، فقد تخيل المعبد دائما مصدرا لخصوبة العالم، وقال المسلمون إن جميع المياه العذبة تنبع من أسفل الصخرة، وأن يوم الحساب سيكون في بيت المقدس، وأن الله سيهزم يأجوج ومأجوج هناك، وسيبعث الموتى ويجمعون في تلك المدينة المقدسة في اليوم الآخر، كما اعتقد أن الوفاة فيها دليل على رضى الله عن المتوفى، وقيل إن جميع الرسل كانوا يتوقون إلى أن يدفنوا هناك، وأن آدم طلب أن يحضر إليها قبل وفاته كي يدفن فيها، وأن صحابة محمد أرادوا إحضار جثمانة كي يدفنوه في بيت المقدس مثوى الأنبياء ومكان البعث، وأن الكعبة ستنقل إلى هناك.
وفي عام 709 أقام الوليد مسجدا مكان المسجد الذي أقيم في عهد عمر، وهو ما يعرف الآن بـ المسجد الأقصى، كما أجرى الوليد سلسلة من الأعمال والمباني لدرجة التساؤل إن كان يريد جعل القدس عاصمة للامبراطورية الأموية، كما يذكر مجير الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، وكان أخوه سليمان يفعل مثل الملك سليمان في القدس، لكن تبين أن القدس لا تصلح عاصمة لدولة كبرى، فأقام مدينة رام الله التي أصبحت مركز الإدارة والجند في فلسطين.

الحال أن المسلمين كانوا يميلون إلى إقامة عواصمهم بعيدا عن الأماكن المقدسة، فقد ظلت المدينة وليس مكة مركزا للرسول والخلفاء من بعده، وفضلت رام الله مركزا لفلسطين على القدس، حتى اليهود الذي يعتبرون القدس المكان الأكثر قداسة فضلوا العيش في رام الله، فكانت أعدادهم فيها اكثر من القدس،

أرسى المسلمون لأول مرة نظاما تمكن بواسطته أتباع الديانات الثلاث من العيش معا في بيت المقدس، احتل كل من الديانات منطقته الخاصة، ويتعبدون في أضرحتههم معبرين عن رؤياهم في استمرارية وتوافق عقائد الذين هداهم الله، تلك العقائد ذات الأصل الواحد؛ ألا وهو الإيمان بالله. لكن بدأت تتشكل رؤية بالشعور بالتميز والصواب لدى فئة متزايدة من المسلمين، ثم ومع انتقال مركز الخلافة إلى بغداد عام 765م قل الاهتمام العباسي بالقدس وبلاد الشام.

يمثل الإسراء والمعراج فكرة إسلامية مؤسسة للربط بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس، وتمثل قبة الصخرة لدى المتصوفين قوة أصيلة نموذجية للسمو الروحاني، وشعر الصوفيون بجاذبية لا تقاوم لبيت المقدس. وقد توفيت ودفنت هناك رابعة العدوية، وجاور (أقام) فيها إبراهيم بن أدهم، وأبو حامد الغزالي.

تقول آرمسترونغ: طوّر المسلمون نموذجا لمحاكاة الإسراء والمعراج يشبه النماذج المسيحية في محاكاة درب الآلام والصعود إلى جبل المعبد، وأقاموا مساجد تؤشر إلى ذكريات وحوادث تاريخية إسلامية، وكانت تجتمع اعداد كبيرة في القدس على رصيف الحرم في المسجد الأقصى ليلة وقوف الحجاج في عرفة وتستمر الحشود واقفة طوال الليل تدعو بأصوات مرتفعة كما لو كانت في عرفات. وفي يوم عيد الأضحى آخر أيام الحج كانوا يقدمون الأضاحي كما لو كانوا في مكة. وكان بعض الحجاج يجمعون بين زيارة مكة والقدس، وهم يرتدون ملابس الإحرام التقليدية.

حين زار ناصر خسرو المدينة عام 1047م كانت قد أعيد ترميمها وإصلاحها وبناء أسواقها ومساجدها ومستشفياتها بعد زلزال كبير دمرها تقريبا قبل ذلك بسنوات، ويقدر عدد سكانها حينذاك بمائة ألف، وكانت أسواقها عامرة وفيها مستشفى ومدارس وخانقات للمتصوفة، واعيد بناء الكنائس والكنس والمزارات اليهودية والمسيحية.

في عام 1095م طلب امبراطور القسطنطينية اليكسيوس كومينونوس مساعدة البابا آريان لمواجهة الترك السلاجقة، لكن البابا لم يبعث كما العادة مجموعات من المقاتلين المرتزقة، وإنما حملة واسعة من عشرات آلاف الجنود المقاتلين والفرسان والفلاحين الفقراء الذين تحركوا في جموع واسعة نحو الشرق بهدف تحرير القدس إيليا أورشليم، وكان آخر ما يشغلهم الدفاع عن الامبراطورية البيزنطية، وأقاموا إمارتين في أنطاكيا بقيادة بوهيموند النورمندي والرها (أورفا) بقيادة بلدوين البولوني، ثم احتلوا القدس عام 1099 بعدما قتل أكثر من 30 ألف من أهلها. وطال القتل والنفي والإبعاد اليهود والمسيحيين الشرقيين من اليعاقبة واليونان والأرمن والجورجيين والنساطرة، وتحولت القدس إلى مدينة اشباح، ظلت فيها بقايا جثث القتلى وروائحهم عدة شهور.

وفي عام 1118 منحت فرقة فرسان الداودية امتيازا في القدس كما أسند إليها حماية طرق الحج والقوافل، وللمرة الأولى تظهر فرقة من الرهبان الفرسان، ثم تحولوا بسرعة إلى جماعة كنسية قوية وثرية، واستخدموا المسجد الأقصى مركزا لهم وأقبيته اسطبلات لخيلهم، وصارت القدس لأول مرة في تاريخها مكانا يمارس فيه العنف، ويخزن فيه السلاح.

بدأت إمارة إسلامية قوية تتسع وتنمو بقيادة عماد الدين زنكي، واستطاعت استعادة الرها من الصليبيين، واستطاع ابنه نور الدين زنكي ضم مصر إلى مملكته (1170م) وصعد صلاح الدين؛ القائد العسكري لدى الزنكيين الأتابكة، ووجد الصليبيون أنفسهم محاصرين بإمبراطورية واسعة وقوية يقودها شخصية كاريزمية تحظى بتأييد واسع في العالم الإسلامي، وأصيب ملك الصليبيين بلدوين الرابع بالجذام، وكان القادة المحيطون به متعصبين في حين كان القادة في المدن يميلون الى المصالحة مع صلاح الدين والتعايش مع المسلمين، وتوفي بلدوين الرابع الملك المجذوم في عام 1185 وخلفه ابنه الطفل بلدوين الخامس، وانتصر صلاح الدين في معركة حطين انتصارا حاسما، ودخل القدس في عام 1187 دون أن يقتل مسيحي واحد.

ظهرت للمرة الأولى بذور الصهيونية بعد استعادة القدس على يد صلاح الدين، فقد بدأ الطبيب اليهودي يهوذا الحلفي يدعو إلى عودة اليهود الى أراضيهم المقدسة وموطن آبائهم، وهاجر الحلفي من إسبانيا إلى الشرق لكنه استقر في مصر وتوفي فيها عام 1141 وبدأت اعداد كبيرة من اليهود بالاستقرار في القدس برعاية صلاح الدين. وفي عام 1229 سلم الكامل الملك الأيوبي القدس إلى فريدريك الثاني امبراطور أوروبا، وكانت المدينة قبل ذلك قد هدمت أسوارها ورحل منها معظم سكانها، وذلك في ظل الخلاف الدامي بين أبناء صلاح الدين. ومن الطريف أن المسلمين والمسيحيين رفضوا المعاهدة، فقد رآها المسلمون خيانة، ورآها المسيحيون أيضا خيانة لدرجة ان القسس رفضوا ترسيم فريدريك ملكا للقدس عندما دخلها.

تحدث فريدريك مع العرب بلغتهم التي كان يتقنها وأعلن عن نيته ادارة تسامح إسلامي مسيحي في القدس، لكن الفرسان الصليبيين تآمروا لفتله، وتظاهر المسيحيون ضده، وقد أثبتت الحادثة أن العداء الإسلامي المسيحي وصل إلى مرحلة لم يعد فيها متقبلا المصالحة والتعايش بين الطرفين، ثم استعاد المسلمون القدس في عام 1239 بموجب انتهاء المعاهدة التي عقدت لعشر سنوات، استعادها الملك الناصر بسهولة، لكنه أعادها مرة أخرى الى الصليبيين مقابل مناصرتهم له ضد سلطان مصر، ثم وفي عام 1244 اندفعت الى المنطقة جيوش من الترك الخوارزميين ودخلوا المدن وسيطروا عليها، وهرب منها المسلمون والمسيحيون على السواء، وفي عام 1250 قاد لويس التاسع حملة فاشلة انتهت بأسره وجيشه، ثم تمرد المماليك على الأيوبيين، وأقاموا دولتهم.

أثرت قدسية المدينة في المماليك، وحرص جميع السلاطين على زيارتها، وأنشأ الظاهر بيبرس مقامين، أحدهما للنبي موسى غرب أريحا، والآخر للنبي صالح قرب رام الله، واتفق على موعد للحج والزيارة للمقامين يكون قبل احتفالات القيامة المسيحية، وبذلك أنشأ حلا للخطر الذي كان يتعرض له الحجاج المسيحيون. صارت حشود الحجاج المسلمين تملأ القدس، كانت المسيرة تبدأ بزيارة الضريح، ثم يمضون أياما في القدس في الصلوات والتراتيل والاستمتاع بالوقت، وفي تلك الأثناء يحتفل المسيحيون وهم يعلمون أن الحشود القريبة مستعدة للدفاع عن القدس إذا اقتضى الأمر.

وبدأ يظهر عنصر نضالي لأجل تكريس اليهود للقدس، ففي عام 1267 لم يكن في القدس سوى عائلتين يهوديتين، جاء الحاخام موشى بن نحمان من إسبانيا وأنشأ معبدا في منزل مهجور ذي قوس جميل، عرف باسم معبد رامبان؛ واستقطب طالبي العلم الذين بدأوا يستوطنون القدس.

في عام 1291 أنهى السلطان المملوكي خليل الوجود الصليبي في عكا، ولم يعد للصليبيين وجود في فلسطين، وبدأ المسلمون يعودون للإقامة في القدس، وبدأ السلام والازدهار يحل في فسلطين وبلاد الشام ومصر، وأقيمت في القدس مدارس وزوايا ومساجد ووقفيات ومنازل لاستقبال الحجاج وطلاب العلم، كما نشات أسواق عامرة للمنتوجات مثل الصابون والمنسوجات. وفي القرن الرابع عشر تجمعت أعداد أكبر من أي وقت سابق من المتصوفين في القدس، واتخذوا مساكن بجانب الحرم.

أنشأ العثمانيون نظاما امبراطوريا راسخا، وكرسوا القوانين، وقد طور السلطان سليمان القدس فأعاد بناء السور الذي هدم قبل ثلاثمائة سنة، وزودها بالماء والنوافير والبرك، وبدأ السكان يزيدون، وأقيمت الأسواق، وكانت المدينة تتميز بأربعة منتجات رئيسية: الصابون والمنسوجات والجلود والأغذية، وانتظمت الصناعات والحرف في أربعين طائفة، وتحسنت أحوال اليهود والمسيحيين بسبب الاستقرار، وكانت الحرية التي يتمتع بها اليهود موضع دهشة الزوار الأوروبيين، ويذكر الإيطالي اليهودي دافيد دي روس أن اليهود كانوا يتولون المناصب والوظائف، ولا تفرض عليهم ضريبة خاصة بهم، كما كانت المحاكم تحمي اليهود وتقبل شهادتهم.

امتدح اليهود السلطان العثماني سليمان الذي اعتبروه صديقا وراعيا لإسرائيل، وذكرت القصص اليهودية أنه ساعد بنفسه في تنظيف موقع اليهود المقدس، وأنه قام بغسل الحائط بماء الورد لتطهيره، كما سبق أن فعل عمر وصلاح الدين حينما أعادا تطهير جبل المعبد.

في عام 1541 دشن بطريرك القدس جيرماناس الكونفدرالية الهيلينستية للقبر المقدس راعيين رسميين للأماكن المقدسة عن العالم الأرثوذكسي، وفي نفس الوقت شكل الفرنسيسكان أنفسهم مجتمعا قوميا لحماية الأماكن المقدسة نيابة عن المسيحية اللاتينية، وبذلك رسمت الخطوط القتالية وبدأت المناوشات الأولية في الصراع غير المجدي بين المسيحيين.

بعد وفاة السلطان سليمان بدأت أوضاع الامبراطورية العثمانة تتضعضع، وصار المسلمون والمسيحيون واليهود يغادرون المدينة، وصار البدو يهاجمون الحجاج، وفي عام 1630 بنى السلطان مراد الرابع القلاع لحماية الطرق والقوافل، لكن الامبراطورية كانت مشغولة ومستنزفة في الحروب الأوروبية والروسية وصارت الامبراطورية تفتقر للقوة البشرية اللازمة لفرض القانون.

وفي عام 1648 لاحظ الرحالة التركي إفلي شلبي ازدهار الأسواق والاقتصاد في المدينة، ووجد أنه يعمل فيها 800 إمام وواعط في الحرم والمدارس ويتقاضون مرتبات، وكان هناك خمسون مؤذنا وعددا كبيرا من مرتلي القرآن.

وكانت مزارع العنب فيها وحولها مزدهرة، ويوجد في سجلات المحتسب 2045 محل تجاري وستة نزل، وستة حمامات عامة، وكان للأرمن كنيستان، ولليونان ثلاث، ولليهود معبدان، وسبع مدارس للحديث وعشرة للقرآن، واربعين مدرسة وخانقاه للصوفية.

بدأ عدد اليهود يتزايد كثيرا في القدس في ظل الحماية العثمانية، لكن مئات العائلات منهم وخاصة الاشكيناز صفيت املاكهم وخرجوا من القدس بسبب عجزهم عن سداد الديون المتراكمة وفوائدها.

دب خلاف كبير بين الفرنسيس الكاثوليك والأرثوذكس، وأصدر السلطان العثماني في العام 1757 فرمانا لصالح الأرثوذكس اليونان للولاية على المقدسات المسيحية، ومازال هذه الفرمان ساري المفعول حتى اليوم. وازدادت قوة اليونانيين أكثر في العام 1774 عندما أعنت روسيا نفسها حامية الكنيسة الأرثوذكسية.

لكن القدس تحولت إلى مدينة فقيرة ومهملة، وحين زارها الرحالة الفرنسي كونستاتين فولني عام 1784 وصفها بأن حوائطها قد تهدمت، وتحولت مبانيها إلى أطلال، وامتلأت بالقاذورات.

في عام 1798 احتل نابليون مصر، وتقدم إلى فلسطين، وأرسل من رام الله خطابا إلى اليهود والمسيحيين كي يتخلصوا من أسر العثمانيين، وفي المقابل هاجم المسلمون كنيسة المخلص وأخذوا عددا من الفرنسيسكان رهائن، وهزم نابليون في عكا، لكن الحملة الفرنسية أفادت كثيرا في التعرف على التقدم العلمي في فرنسا وأوروبا.

في عام 1819 قامت ثورة إسلامية حاصرت قلعة الوالي بسبب السماح للمسيحيين بإعادة إعمار كنيسة القبر المقدس، وقد قطعت رؤوس 46 من قادة التمرد وارسلت إلى دمشق. وبسبب الخلافات المسيحية على الأماكن المقدسة والتي أدت إلى صراعات ومشكلات كثيرة تصل الى القتل والحرائق ونبش القبور سلمت مفاتيح الكنيسة إلى عائلة مسلمة، ومازال هذه الامتياز قائما حتى اليوم. وقد وصلت الخلافات بين الطوائف الى المهاترات، لدرجة لم تعد قادرة على أداء صلواتها وطقوسها إلا بحراسة مشددة من الجيش التركي. وفي عام 1824 قامت ثورة شاملة ضد الترك بسبب زيادة الضرائب، وانتهت بالتراجع عن رفع الضرائب وبالتزام تركي أن يكون مسوؤولو المدينة من العرب.

وفي عام 1830 احتل محمد علي بلاد الشام، ودخلت البلاد في مرحلة أشد قسوة مما كان عليه الحال أيام الترك العثمانيين، وقد غير محمد علي ممثلا بابنه إبراهيم من أسلوب الحياة والإدارة إلى الأبد، فقد أنشا محاكم علمانية يتساوى أمامها جميع المواطنين، ومثل اليهود والمسيحيون في مجلس القدس، وصار غير المسلمين يتمتعون بمساواة كاملة، واستقلت أجهزة الدولة والنظام القضائي عن السلطة الدينية.

وأصاب التفتت الطوائف اليهودية أيضا، بين سفارديم وشكنازيم، وحاسيديم وميتناجديم، وصار لكل طائفة حيها ومعبدها الخاص، وبدأت الدول الأوروبية تقيم قنصليات في القدس منذ عام 1839، فافتتحت قنلصليات لبريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا.

في عام 1872 أصبحت القدس إدارة مستقلة وتتبع مباشرة للباب العالي في استنبول، وبدأ عدد سكان المدينة بالتزايد، فقد وصل في عام 1850 إلى أكثر من 10 آلاف منهم 3 آلاف مسلم، وفي عام 1850 صار اليهود أغلبية في المدينة، وتزايدت أعدادهم من 6 آلاف عام 1850 من 15 ألفا، إلى 45 ألف عام 1910 من 70 ألف نسمة. ولأول مرة منذ هدم المعبد بدأ نجم اليهود بالصعود.

طرح الفيلسوف اليهودي موسى هس في عام 1860 في كتابه "روما وأورشليم" أن يؤسس اليهود مجتمعا اشتراكيا في فلسطين، وأعاد تفسير اليهودية تفسيرا اشتراكيا، وقال إن الأنبياء كانوا يدعون إلى العدالة والمساواة ومناصرة الفقراء. وربما يكون هس ملهم سيد قطب في كتابه المشهور "العدالة الاجتماعية في الإسلام" والذي صدر في عام 1947 وكان له تأثير واسع بين المثقفين المسلمين.

وقدم المؤرخ الألماني هينزيتش جراتر أطروحة ضخمة عن التاريخ اليهودي من أقدم العصور، والذي صدر في عدة أجزاء بين عامي 1843 - 1876 وكان لا يرى فائدة من محاولة اليهود محاكاة المسيحيين بفصلهم الدين عن السياسة، ويقصد الدعوة التي تبناها يهود الإصلاح، فاليهودية عقيدة سياسية في جوهرها، واليهود منذ زمن الملك داود أوجدوا صلة بين الدين والسياسة بأسلوب عضوي خلاق. ولم يؤيد جراتر الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ثم حصل الصهاينة بمؤتمرهم الدولي في بال عام 1897 على منبر دولي، وقدم هرتزل في كتابه الدولة اليهودية عام 1896، وكان قبل ذلك علمانيا غير متدين ولا يؤمن بالهجرة، بل إنه كان يفكر في التحول إلى المسيحية، لكنه صدم بنمو القومية المعادية لليهود وتنبأ بكارثة سوف تحصل لهم، وصار يدعو إلى وطن قومي لليهود ليس بالضرورة فلسطين، وقابل لأجل هذه الفكرة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني والبابا ووزير المستعمرات البريطاني، ولم يكن بن غوريون متدينا، وكانت أورشليم تمثل بالنسبة له رؤية اشتراكية، وفي عام 1909 بنى المهاجرون اليهود مدينة تل أبيب إلى جانب مدينة يافا، وكان معظم المستوطنين من النمط المديني.

في عام 1917 دخل اللنبي الى القدس منتصرا على تركيا في سياق الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 كان دخول البريطانيين بقيادة اللنبي إلى القدس عام 1917 نهاية لحقبة طويلة من السيادة الإسلامية على المدينة استمرت حوالي 1300 سنة، وكان الفلسطينيون يشكلون 90 من سكان فلسطين لكنهم كانوا أقل من نصف سكان القدس، وفي العام 1967 احتلت إسرائيل القدس وتابعت تحولات كبرى وعميقة في بنية المدينة.