قندح يكتب: بنك البذور الوطني والذكاء الاصطناعي!!
د.عدلي قندح
يمثل تفضل جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله ورعاه، بافتتاح بنك البذور الوطني في لواء عين الباشا بمحافظة البلقاء، في العاشر من آذار الجاري، خطوة ملكية رائدة تعكس حرص جلالته الدائم على تعزيز الأمن الغذائي وتحقيق الاستدامة الزراعية في الأردن.
فمع تصاعد التحديات البيئية والاقتصادية التي تؤثر على القطاع الزراعي، يأتي هذا المشروع استجابة مدروسة لمتطلبات المستقبل، وفق أعلى المعايير الدولية المعتمدة في بنوك البذور العالمية. تعد بنوك البذور أحد المكونات الأساسية لضمان استدامة الإنتاج الزراعي، حيث تعمل على حفظ وتطوير السلالات النباتية وتحسين جودة المحاصيل. في ظل التغيرات المناخية، وارتفاع درجات الحرارة، وشح الموارد المائية، تزداد الحاجة إلى توفير بذور مقاومة للظروف البيئية القاسية، وهو الدور الجوهري الذي يؤديه البنك الوطني الجديد.
وبالاعتماد على تقنيات متطورة، يتيح البنك إطالة عمر البذور من 10 سنوات إلى 100 سنة لبعض الأصناف، مما يضمن توفر مخزون استراتيجي دائم، قادر على تعويض أي تراجع في التنوع الحيوي الزراعي نتيجة التغيرات البيئية أو الكوارث الطبيعية.
يمكن أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في تعزيز كفاءة بنك البذور الوطني وتحقيق أهدافه الاستراتيجية. من خلال تحليل البيانات الضخمة حول الأنماط المناخية، والخصائص الوراثية للمحاصيل، وتفضيلات المستهلكين، يمكن للذكاء الاصطناعي المساهمة في تطوير أصناف جديدة من البذور تتكيف بشكل أفضل مع الظروف البيئية المتغيرة. على سبيل المثال، يمكن استخدام تقنيات تعلم الآلة لنمذجة كيفية استجابة المحاصيل لدرجات الحرارة المتغيرة أو لنقص المياه، مما يساعد في تحديد الأصناف الأكثر قدرة على التحمل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين عمليات إدارة المخزون من خلال التنبؤ بتوزيع البذور بشكل يجنب الفائض أو النقص، مما يضمن توفير كميات كافية للمزارعين. علاوة على ذلك، يمكن أن تدعم أدوات الذكاء الاصطناعي البحث العلمي من خلال تحليل بيانات التجارب الزراعية بشكل سريع وفعال، وتمكين اللجان البحثية من تطوير حلول مبتكرة تساهم في تحسين الإنتاجية والاستدامة.
يعد تطوير القطاع الزراعي ركيزة أساسية لتعزيز الاقتصاد الوطني، إذ يسهم في رفع كفاءة الإنتاج، وتقليل فاتورة الاستيراد، وخلق فرص عمل جديدة، فضلاً عن دعم الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل الصناعات الغذائية والتكنولوجيا الحيوية. ومن خلال تحسين جودة البذور وتوفير أصناف أكثر إنتاجية وأقل استهلاكًا للمياه، يساعد البنك في تقليل التكاليف الزراعية وزيادة العوائد المالية للمزارعين، مما ينعكس بشكل مباشر على الاقتصاد المحلي وأمن الغذاء الوطني.
علاوة على ذلك، فإن قدرة البنك على إنتاج وتطوير أصناف زراعية جديدة تلبي متطلبات الأسواق العالمية تعزز فرص توسيع الصادرات الزراعية الأردنية، ما يدعم الميزان التجاري ويحقق تنويعًا في مصادر الدخل القومي.
وبهدف تحقيق أهدافه الاستراتيجية، تم تصميم بنك البذور الوطني وفق المعايير العالمية لبنوك البذور، والتي تتطلب وجود مختبرات متخصصة، وتقنيات تخزين متقدمة، وإجراءات صارمة لضمان حفظ العينات الوراثية النباتية على المدى الطويل. ولعل أبرز هذه المعايير: أولا، التخزين طويل الأمد، حيث يتم استخدام تقنيات تبريد متقدمة لضمان بقاء البذور في حالة حيوية لقرن كامل. ثانياً، تنوع العينات، حيث يضم البنك عينات من بذور يعود بعضها إلى عام 1927، مما يعزز استمرارية التنوع الحيوي. ثالثاً، دعم البحث العلمي، حيث يوفر البنك مرافق مخصصة لدراسة تطور السلالات النباتية، ما يدعم الجامعات والمراكز البحثية في تطوير حلول مبتكرة للزراعة الحديثة. رابعاً، الربط مع الشبكات العالمية، فيمكن للبنك أن يكون جزءًا من منظومة البنوك الجينية العالمية، مثل «سفالبارد» في النرويج، ما يتيح للأردن دورًا رياديًا في مجال حفظ الموارد الوراثية الزراعية على المستوى الدولي.
ويأتي إنشاء البنك في إطار الخطة الوطنية للزراعة المستدامة (2022-2025) والاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة الإنتاج المحلي. كما يعكس التزام الأردن بتحديث القطاع الزراعي وتبني الابتكار في مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية.
إن بنك البذور الوطني ليس مجرد منشأة بحثية، بل هو استثمار استراتيجي في مستقبل الأمن الغذائي والاقتصاد الزراعي. من خلال اعتماد التكنولوجيا الحديثة وتطوير البذور المحلية وتحفيز الأبحاث الزراعية، يضع البنك الأردن في موقع متقدم ضمن الدول التي تولي أهمية كبرى لاستدامة مواردها الطبيعية. كما يمثل رسالة واضحة حول أهمية التخطيط بعيد المدى في مواجهة تحديات الأمن الغذائي العالمي، وضمان مستقبل زراعي مزدهر للأجيال القادمة.