القمم العربية والقضية الفلسطينية: بين التنديد اللفظي والعجز الفعلي
د. إبراهيم النقرش
مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما يشهده من تصاعد للأزمة الإنسانية، تجدد القمة العربية دعواتها التقليدية لدعم الشعب الفلسطيني والتضامن معه. إلا أن القمة الأخيرة، على غرار سابقتها، لم تخرج عن الإطار المعهود من البيانات الداعمة التي تفتقر إلى أي خطوات عملية تفرض ضغوطًا حقيقية على إسرائيل أو تضع حدًا للمأساة المستمرة. هذا التكرار يثير تساؤلات عديدة حول مدى جدّية الموقف العربي في تقديم الدعم الفعلي، وهل حان الوقت لإتخاذ قرارات جريئة تُترجم المواقف السياسية إلى أفعال ملموسة.
لم يكن مُستغربًا أن تقتصر القمة العربية كعادتها على إصدار بيانات الإدانة والشجب، دون تقديم قرارات وآليات عملية تسهم في الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على أهلنا في غزة والضفة. ورغم المطالبات والقلق الشعبي المتزايد من الأوضاع في غزة، ظلت القمة كما هو الحال في جميع الاجتماعات السابقة، تكتفي بالكلمات التي تُعلن التضامن، لكنها تفتقر إلى الإجراءات الجادّة التي يمكن أن تُسهم في تغيير المعادلة على الأرض. فقد غاب عن القمة أي قرار مُلزم للدول العربية لفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، أو تجميد التطبيع معها، أو تقديم الدعم العسكري المباشر للفصائل الفلسطينية ولو من باب التهديد (العين الحمراء). هذا التراخي عزز قناعة الاحتلال بأن القمم العربية ليست سوى منابر إعلامية تهدف لإمتصاص الغضب الشعبي، دون التأثير الحقيقي في الواقع الفلسطيني. (فأصبحت قمم تأبين لما فعلته إسرائيل قبل انعقادها ... وقمم تطمين لما ستفعله بعدها)... لا بل لم تتوانَ (لاجمَتهم) جامعة الدول العربية بالتصريح أن مُعضلتها في نزع سلاح المقاومة وتغييب حماس عن الوجود... وكأنهم يحررون صك براءة وغفران للعدو المحتل... ويوجهون لائحة اتهام بالإعدام للمقاومة الفلسطينية وأنصارها ... ليقدّموا لإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بعقود.
إن الواقع العربي بقممه الضعيفة الهزيلة يظهر انقسامًا حادًا متضادًا في المواقف تجاه القضية الفلسطينية. ففي حين أن دولًا تواصل دعمها لفلسطين، تختار دول أخرى المضي في مسار التطبيع مع إسرائيل كفرصة لتعزيز مصالحها الاقتصادية، مما يُضعف الصف العربي بشكل كبير ويُفقد التحركات الجماعية أي زخم سياسي حقيقي مؤثر في المنطقة. هذه الانقسامات تتضاعف بفعل تبعية بعض الأنظمة العربية للغرب، سواء من خلال العلاقات الاقتصادية أو العسكرية مع الولايات المتحدة وأوروبا (والغياب عن الاجتماع الدليل)، وهو ما يجعل اتخاذ قرارات جريئة ضد إسرائيل أمرًا بالغ الصعوبة مما يجعل العدو في فسحة من العيش والأمل لتحقيق أحلامه التوسعية.
ولا يغيب عن البال أن هناك قلقًا من الأنظمة العربية بأن الدعم المباشر للمقاومة الفلسطينية قد يؤدي إلى تعزيز قوة الفصائل الفلسطينية المسلحة، وهو ما يخشى البعض من أن يُلهم شعوبهم للتحرك ضد التضييق الداخلي في محمياتهم.
ويبقى الخطاب العربي المكرر المهترئ منذ عقود بالتأكيد والالتزام بالسلام (الاستسلام) فوقّعوا المعاهدات والاتفاقيات الخائبة ولا تزال إسرائيل تطعنهم تحت الحزام وفوقه، ظلت المبادرات العربية المتعلقة بالقضية الفلسطينية تتكرر دون تقديم أي نتائج ملموسة أو تبشر بها. ورغم طرح مبادرة السلام العربية في 2002، ورغم رفض إسرائيل لها وتسفيهها لها ولمن طرحها، لم تتخذ أي ردة فعل أو قرارات أو تُمارس أي ضغوط فعلية عليها للقبول بها أو تقديم تنازلات. بدلاً من اتخاذ خطوات عملية مثل تجميد العلاقات مع إسرائيل أو فرض عقوبات اقتصادية ووقف التعامل معها، ظل الخطاب العربي يقتصر على كلمات تمني وتوسل وشجب لا تُترجم إلى أفعال بل أمعنوا في غيّهم بأن أصبحوا شريان الحياة الاقتصادي لإسرائيل خلال حرب غزة.
وأصبح الأمل يخبؤُ لدى الشعوب العربية في ظل هذه الأنظمة.... فهل للأمل بقية...؟ إذا توفرت الإرادة السياسية الصلبة البعيدة عن الاعتبارات المصلحية، لا تزال أمام الدول العربية العديد من الأدوات التي يمكن استخدامها للضغط على إسرائيل بشكل حقيقي والانتصار لأنفسهم ولأهل غزة الصامدين. فالحرب على غزة تفتح آفاقًا وأبوابًا للتحرر للعرب من الهوان والتبعية والذل الذي لحق بهم طوال عقود (ومن الغريب العجيب أن المؤتمر لم يتعرّض لذكر إسرائيل في الإدانة وتحميلها مسؤولية دمار غزة لا بخشونة ولا بنعومة النبرة). فالخطوة الأولى تتطلب اتخاذ موقف حازم بإيقاف كافة أشكال التطبيع والتنسيق مع إسرائيل، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية والأمنية. كفرض حظر على التعاملات التجارية مع إسرائيل، مع ممارسة ضغوط على الشركات العالمية التي تدعم الاحتلال، وفرض التعمية الأمنية ووقف التعامل بها.
أما على الصعيد المالي، يمكن إنشاء صندوق عربي لإعمار غزة، يُموّل من الدول العربية الغنية، ويُخصص لدعم إعادة البناء وتقديم مساعدات عاجلة للمتضررين وإعادة الثقة بالعرب كرافعة لإعمار غزة بعيدًا عن الابتزازات الغربية. كما يمكن للمجتمع العربي أن يقدم الدعم العسكري الفعلي لغزة من خلال تزويد المقاومة الفلسطينية بوسائل دفاعية، على الأقل لبقائهم، ولا بد أيضًا من تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك لحماية الفلسطينيين في غزة وحماية الدول العربية نفسها لأمنها القومي الذي أصبح مهددًا من أخس شعوب الأرض وأهونها.
علاوة على ذلك، فإن هناك فرصة وضرورة للتحرك على الصعيد القانوني والدولي واستغلال جرائمهم في غزة وغيرها وعلى مدى عقود، من خلال رفع دعاوى ضد الاحتلال وقادته في المحاكم الدولية، والضغط لطرد إسرائيل من المنظمات الدولية التي تدعم سياساتها الاستيطانية. وعلى المستوى الإعلامي، يمكن أن تلعب القنوات الإعلامية العربية دورًا مهمًا في نقل الرواية الفلسطينية والعربية إلى العالم، من خلال إطلاق منصات إعلامية عالمية وتنظيم حملات إلكترونية تكشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
وتبقى غزة في القلب الجرح النازف والغائر في ضمير ووجدان الأمة العربية والإسلامية وكل حر غيور في العالم، فلا بد من النصرة والإغاثة بفتح معابر غزة لاستقبال المساعدات بشكل دائم ودون التودد للعدو... وإرسال الفرق الطبية لمعالجة الجرحى... وتوفير منح دراسية لطلاب غزة... وتوفير المأوى للنازحين.. وهذا أقل ما تستطيع فعله أمة قصّرت بالدفع عنها... بل عجزت عن إدخال رغيف خبز وشربة ماء تنقذ بها جوعى غزة.
الواقع يُظهر بوضوح أن إسرائيل لم تعد تأخذ القمم العربية على محمل الجد "وهاهي ترفض الخطة العربية لإعمار غزة"، لأنها تعرف أن هذه القمم لا تُترجم إلى أفعال ملموسة بل هي مجسّات لخفض ضغط الشعوب وحرارتها. وإذا استمر هذا النهج كمحاولة لإمتصاص الغضب الشعبي وإظهار تضامن شكلي مع القضية الفلسطينية، دون أي تأثير، فستظل غزة تدفع الثمن الباهظ، ليس فقط نتيجة العدوان الإسرائيلي، ولكن أيضًا بسبب التخاذل العربي. ما هو مطلوب اليوم ليس المزيد من البيانات والشجب والإدانات، بل قرارات جريئة وفعّالة تُنهي معاناة الفلسطينيين وتضع حدًا للسياسات الإسرائيلية المهينة للكرامة العربية وحُرّاسها. ويبقى السؤال: ماذا لو رفضت أمريكا خطة العرب لإعمار غزة بعد أن رفضتها إسرائيل؟ وهي تستعد للهجوم على غزة. ما هي الخيارات والبدائل لدى العرب…؟ فهل سيكون القادة العرب قادرين على اتخاذ خطوات حاسمة؟ أم سيظل الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية؟