النقرش يكتب: الوطن والانتماء بين الواقع والشعارات

 

د. إبراهيم النقرش

لطالما سمعنا الخطابات الرنانة عن الأوطان والانتماء، ورأينا الشعارات تملأ الشوارع، والأغاني الوطنية تصدح في المناسبات في المجتمعات البشرية على اختلاف مشاربها... لكن هل تكفي هذه الوسائل وحدها لصناعة الانتماء الحقيقي وحب الأوطان؟ هل يمكن للمواطن أن يشعر بالوطنية وهو يعاني الفقر والبطالة وغياب العدالة؟ أم أن الانتماء يتشكل عندما يصبح الوطن بيئة تحقق له كرامته وحقوقه؟

فالحق، والحق أقول، أن حقوق المواطن على وطنه (أينما كان) هي الأساس الذي يُبنى عليه حب الوطن ويجعله يشعر بالانتماء الحقيقي له، حيث لا يكفي مجرد حمل الجنسية دون توفير بيئة تضمن له العيش بكرامة ومساواة.

فالوطن ليس مجرد قطعة أرض نولد عليها، ولا مجرد علم يُرفع أو نشيد يُنشد، بل هو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان والكرامة والعدالة، حيث يتمكن من بناء مستقبله دون خوف أو إحباط. لا أحد في الكون يجمع يختار المكان الذي يولد فيه، لكن الجميع يبحث عن المكان (الموطن) الذي يحقق فيه ذاته ويشعر فيه بمواطنته فيمنح ذلك المكان نفسه. كيف يُطلب من الإنسان أن يحب وطنًا لا يجد فيه ما يحفظ كرامته؟ كيف يُفرض عليه الولاء لوطن لا يوفر له العيش الكريم ولا يمنحه فرصًا عادلة للحياة؟

ومما اعتاده البعض في الأوطان الاستقواء على المواطن والمزاودة عليه في إلقاء الخطب الحماسية الرنانة عن حب الوطن والتضحية من أجله... لكن الكلمات المعسولة وحدها لا تطعم لقمة لجائع، ولا توفر علاجًا لمريض، ولا تؤمّن مستقبلًا لطفل بائس محروم من التعليم. الوطنية ليست سلعة تُباع في الدكاكين ولا دواء يباع في الصيدليات، ولا صبغة تُصبغ بها النفوس ولا حليب يرضعه المواطن في طفولته ليكبر مغرمًا بوطنه دون أسباب. لا يمكن للإنسان أن يشعر بالولاء لمجرد سماعه خطابات جوفاء، بينما يواجه واقعًا قاسيًا لا يمنحه الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.

المواطن لا يحتاج إلى دروس في الوطنية ولا تنفعه هوسة دبيكه... أو زغروتة نشمية، بل يحتاج إلى وطن يمنحه حقوقه الأساسية ويمنحه دفء المواطنة بالعيش بكرامة... بفرصة عمل... ورعاية صحية... ومستوى معيشي يحرره من الحاجة والاستجداء على أبواب المتحكمين بأرزاق العباد.

المواطن بحاجة إلى المساواة أمام القانون إذ لا انتماء في ظل التمييز لبعض...

المواطن ليس بحاجة لمواويل الفنانين المتنفعين باسم الوطنية، ولا لمطاعيم الانتماء التي يوخزها به المتسلقون على أدراج السلطة... ودعاة الانتماء... بل هو بحاجة للحرية والحماية من النخب والمتسلطين... بحاجة أن يرفع صوته... وألا تظل السلطة في يد فئة قليلة متسلطة متنفذة تستأثر بالثروات والمقدرات بينما يُطلب من الشعب الصبر والتضحية.

المواطن بحاجة أن يخلوا بينه وبين وطنه... ولا يُخوّنوه إن قال رأيه... ولا يقوّلونه ما لم يقل... وليعلو صوته... وليقل ما يقول... وليعتب على من يشاء بعفوية المحب الذي يدفع من دمه وعرقه... للحق برغيف عيشه الفار منه فرار الفريسة من الأسد.

إن أخطر ما يهدد الانتماء هو (النفاق السياسي والوطنية الزائفة القابعة في داخل المتنفذين المتنفعين) وهو استغلال مفهوم الوطنية لخدمة مصالح شخصية، حيث يطالب البعض الفقراء بالتضحية من أجل الوطن، بينما هم ينعمون بخيراته. المواطن يرى كيف تتحكم قلة قليلة في مقدرات البلاد، بينما تُطلب منه التضحيات دون مقابل. كيف يُنتظر منه أن يشعر بالانتماء لوطن لا يمنحه حقوقه، بينما يرى الفساد والمحسوبية تسري فيه وتنهش في جسده المنهك؟

الانتماء الحقيقي ليس بكتاب يُقرأ، ولا يُفرض ولا يُشترى، بل يُبنى عندما يشعر المواطن بأن وطنه يحميه ويوفر له حياة كريمة. عندما يجد المواطن فرصة عمل تحميه من العوز، وعندما يشعر بأن صوته مسموع وأن العدالة تُطبق على الجميع، عندها فقط سينتمي لوطنه دون أن يُطلب منه ذلك. الوطنية ليست أمرًا يُفرض بالقوة أو التلقين، بل هي شعور طبيعي ينمو عندما يكون الوطن بيتًا آمنًا للجميع، لا مزرعة لفئة قليلة على حساب الأغلبية المسحوقة.

نهاية القول، الوطن ليس مجرد أرض وُلدنا فيها ونعيش عليها، بل هو المكان الذي يمنحنا الأمن والعدالة والكرامة. وحين يفشل الوطن في تحقيق ذلك، فإنه يصبح مجرد مكان للعيش (بغربة فيه)، لا للانتماء.