مسرح دمى لا أكثر... لقاء ترامب بزيلينسكي
قال الكاتب والباحث في الشأن الاستراتيجي الدكتور حيدر البستنجي إن المشادة الكلامية الأخيرة بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والإدارة الأمريكية ألقت الضوء على ديناميات القوة الكامنة التي تُعيد تعريف النظام العالمي المعاصر، حيث يتبدى بوضوح أن الفاعلين الحقيقيين ليسوا بالضرورة الحكومات الظاهرة على مسرح السياسة، وإنما الشركات العابرة للقارات والمؤسسات الاقتصادية العملاقة، التي تتحكم بخيوط اللعبة من وراء الكواليس، مُكرّسة بذلك مبدأ أن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية تتجاوز الاعتبارات السيادية للدول.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن استدراج أوكرانيا إلى استعداء جارتها روسيا، كان جزءًا من مخطط مُحكم، استند إلى تقديم تسهيلات للاقتراب من حلف الناتو، رغم كونه خطًا أحمر روسيًا مُعلنًا سلفًا، إذ دفع هذا الاستفزاز الاستراتيجي موسكو إلى اتخاذ قرار الحرب كخيار لا مفرّ منه، مما أدى إلى إقحام أوكرانيا في مواجهة غير متكافئة، وجعلها رهينة لدعم عسكري ومالي غربي مستمر، ولولا هذا التدفق الهائل للأسلحة والمساعدات، لما استطاعت كييف الصمود إلا لأيام معدودة أمام القوة الروسية.
وأشار البستنجي إلى أن ما بدا في ظاهره انتصارًا للصمود الأوكراني انطوى في جوهره على معادلة بالغة التعقيد، حيث تجلّى التفوق النوعي للسلاح الأمريكي، الذي مكّن دولة صغيرة نسبيًا من مواجهة قوة عظمى كروسيا، لكنه في المقابل لم يكن دعمًا بلا مقابل، فالأثمان السياسية والاقتصادية التي طُلب من أوكرانيا تسديدها تمثلت في تقديم تنازلات استراتيجية، أبرزها المقايضة على الثروات المعدنية الثمينة، ما يُنذر بتفريط ممنهج في حقوق الشعب الأوكراني لحساب مصالح اقتصادية أمريكية صرفة.
واستطرد قائلًا إن زيلينسكي بدأ يُدرك حجم الورطة التي وُضع فيها، غير أن إدراكه جاء متأخرًا وبعد أن باتت خياراته محدودة بين الاستمرار في حرب استنزافية مُدمّرة أو القبول بتسويات مُجحفة، وكلا الخيارين يُفضي إلى خسائر فادحة، فقد وجدت أوكرانيا نفسها في صراع يُجاوز قدراتها العسكرية والاقتصادية، وعداوة مع جار عملاق استنادًا إلى تحريض أمريكي، لتُصبح النتيجة أن كييف باتت الخاسر الأكبر، بغض النظر عن المسار الذي ستتبناه.
ولفت البستنجي الانتباه إلى أن هذا المشهد يُعيد إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة عرفتها منطقتنا، حيث تتغلب النزعات المغامرة والطموحات غير المدروسة على اعتبارات المصالح الوطنية، مدفوعة بوعود وتشجيع من قوى تدّعي الصداقة، بينما الواقع يُثبت أن السياسة الخارجية تُدار حصرًا وفق منطق المصالح.
وذكر أن الإهانة العلنية التي وجّهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لزيلينسكي على الهواء مباشرة وأمام العالم بأسره، فلم تكن تصرفًا اعتباطيًا أو اندفاعًا عاطفيًا، وإنما كانت خطوة مدروسة ومُحكمة ترمي إلى توجيه رسالة مزدوجة، مفادها أن واشنطن تُمسك بخيوط اللعبة بالكامل، وأن كلا الطرفين — روسيا وأوكرانيا — ليسا سوى أدوات في معادلة تُحقق فيها الولايات المتحدة مكاسب استراتيجية واقتصادية، فالأمريكيون يُحكمون خيوط اللعبة بذكاء، مستفيدين من استنزاف موسكو وتوريط كييف، ليظل الطرف الأمريكي هو الرابح الأوحد عند عقد أي اتفاق سلام مستقبلي. وكما يُعبّر المثل الفرنسي القديم: "من يدفع ثمن الموسيقى، يختار المعزوفة".