أبو زينة يكتب: واقع الشرق الأوسط الإمبريالي..! (3)
علاء الدين أبو زينة
وفق أي قراءات، يبقى وجود المستعمرة الصهيونية في المنطقة السبب الأول في توتير الشرق الأوسط، حيث تتداخل العوامل السياسية والعسكرية والدينية والاقتصادية. ويمكن تصور احتمالات تطور المنطقة من دون الكيان الصهيوني، ويصعب التفكير في سيناريو يقترب مجرد اقتراب من سوء أحوال الإقليم في وجوده. لذلك، من المنطقي المجادلة بأن أفضل تطور ممكن لاستقرار الإقليم هو زوال الكيان جملة وتفصيلًا. ولكن، كما حدث، أفضت الديناميات على مدى ثلاثة أرباع قرن منذ نشوء الكيان إلى تراجع هذا الخيار إلى أدنى الحدود – بل وسيادة انطباع بأن تكوينات إقليمية مهمة تدافع عن وجود هذا الكيان وتعمل على إحباط أي جهود تُبذل لمقاومته وإسقاطه. ومن المعقول اقتراح أن السياسات السائدة التي تحكم المنطقة تعمل بوضوح ضد الذات العربية –إذا كانت الذات تعني مصالح وتطلعات وعواطف مئات الملايين من سكان الإقليم.اضافة اعلان
أيًا يكن، يبدو أن الآليات العاملة في الصراع مع الكيان تتجه نحو سيناريوهات أكثر تصعيدًا، ويبدو أن هذا التصعيد يجسد إرادة القوى المتحكمة في مصير المنطقة، بمساعدة وكلائها المحليين. وفي المجمل لا تخرج السيناريوهات المحتملة لحل الصراع، والتي تتراوح بين الحلول السياسية المتفق عليها دوليًا والسيناريوهات التي قد تفرضها التطورات الميدانية والتغيرات الإقليمية والدولية، عن الاحتمالات التالية:
أولًا: أكثر ما يُسمع في الخطاب الدولي والعربي الرسمي – والفلسطيني الرسمي- في العقود الأخيرة هو عبارة «حل الدولتين». ويقوم هذا الحل على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب دولة الكيان. وتدعم الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي هذا الحل، لكنها لا تفعل أي شيء لتحقيقه. ويستخدم الكتاب الغربيون وصفًا أكثر دقة فيزيلون «أل التعريف» ليقولوا «حل دولتين»، بالنظر إلى العبث المستمر في أسس هذا الحل. وقد تبنت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية هذا الحل في «مبادرة السلام العربية» باعتباره حلًا نهائيًا، عادلًا وشاملًا – بكلفة التخلي عن معظم فلسطين التاريخية، وعلى حساب معظم الفلسطينيين.
ثانيًا: يتحدث عدد من المفكرين اليهود التقدميين وقسم من المفكرين العرب عن «حل الدولة الواحدة». ويقترح هذا الحل إقامة دولة واحدة تضم المستعمرين اليهود والفلسطينيين الأصليين مع حقوق متساوية للجميع. ومع أنه يلقى دعمًا بين بعض النشطاء الفلسطينيين ومن الكيان، فإنه مرفوض تمامًا لدى التيارات الصهيونية اليمينية السائدة التي تريد الحفاظ على ما تسميه «الهوية اليهودية» للدولة. ومن الواضح أن هذا الحل يجيب عن مسألة «إلقاء اليهود في البحر» في حال تحقق وضع يأخذ في الاعتبار الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني وعدم شرعية وجود أفراده في فلسطين.
ثالثًا: ثمة سيناريو المقاومة والتحرير بالكفاح المسلح. ويعتنق هذا الخيار فكرة مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل، بما فيها الكفاح المسلح، حتى تحقيق التحرير الكامل. وتطرح هذا الحل حركات مقاومة فلسطينية أبرزها «حماس» والجهاد الإسلامي، وتدعمه ببعض الطرق إيران وتكوينات ثورية ما دون الدولة. ويعتمد نجاح هذا الخيار على مدى قدرة المقاومة على استنزاف الكيان عسكريًا وسياسيًا، لكنه يواجه تحديات هائلة مثل التفوق العسكري للكيان والدعم الغربي له. ويضاف إلى ذلك اتجاه سياسي عربي سائد يعبر عن نفسه بوضوح مطرد إلى عدم دعم هذا الخيار على الأقل –إن لم يكن مساعدة تقويضه.
رابعًا: يتصور البعض حلًا إقليميًا شاملًا بوساطة دولية، يقوم على تسوية شاملة بوساطة دول كبرى غير غربية، مثل الصين وروسيا، تحركه مبادرة إقليمية تقودها دول عربية مهمة. ويُفترض أن يتضمن هذا الحل تسويات اقتصادية وأمنية، لكنه يعتمد على مدى استعداد الكيان الصهيوني لتقديم تنازلات حقيقية، وهو أمر مشكوك فيه تمامًا في الشروط الراهنة. ويتطلب هذا السيناريو مقدمات غير موجودة مطلقًا حاليًا، أهمها حدوث تغير جذري في موازين القوى العالمية، وتوفر شروط إقليمية مختلفة تمامًا.
خامسًا: يتصور أحد السيناريوهات انهيار الكيان نتيجة عوامل داخلية أو إقليمية. ويرى بعض المحللين أن الكيان ربما ينهار من الداخل نتيجة تفاقم الانقسامات السياسية والدينية، ورفض الشباب الخدمة العسكرية، وتدهور دعمه الدولي. ويمكن أن يحدث هذا السيناريو إذا استمر الضغط العسكري والسياسي من المقاومة الفلسطينية، وتعمقت عزلة الكيان على الساحة الدولية كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وقد شرعت ملامح من هذا السيناريو في الظهور في السنة الأخيرة بعد أن تقوضت الكثير من أركان سردية الكيان العالمية واتضحت طبيعته الوحشية الإبادية. كما يصعب عدم ملاحظة التناقضات الداخلية التي كشفت عن نفسها في بنية الكيان مؤخرًا.
سادسًا: ثمة السيناريو المتحقق فعليًا والقائم على استمرار الوضع القائم. ويعني هذا السيناريو بقاء الوضع الراهن بلا أي حل سياسي، على أساس استمرار احتلال الضفة الغربية وتحييد غزة، مع تصعيد متقطع بين المقاومة الفلسطينية والكيان. وليس هذا وضعًا سكونيًا بالضبط، حيث يدعمه الكيان فعليًا بفرض وقائع جديدة على الأرض مثل توسيع المستوطنات، ويحاول تطبيعه مع العرب من دون تقديم أي تنازلات للفلسطينيين.
بطبيعة الحال، يعتمد تحقق أي من هذه السيناريوهات على عوامل معقدة أهمها الموقف العربي الرسمي – في ظل تهميش الموقف الشعبي. لكن السؤال الأساسي في ضوء المعطيات هو: لماذا لا تقوم الولايات المتحدة والغرب بحل الصراع –حتى على أساس الحل الذي قبلته الدول العربية، ويتبناه طرف فلسطيني، ووافق عليه الكيان ظاهريًا في أوسلو؟
يُطرح حل الدولتين على أنه السيناريو القابل للتحقق (رغم إعلان معظم المراقبين موت هذا الحل). ويقول العرب، من خلال «مبادرة السلام العربية» أنه إطار منطقي لإنهاء الصراع ودمج الكيان في المنطقة. لكن القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا تعمل بأي قدر من الجدية على تحقيقه. ولا يأتي هذا الجمود المتعمَّد نتيجة لانحياز أيديولوجي أو تحالف استراتيجي غير قابل للتغيير، بل هو جزء من دينامية أوسع تضمن استمرار التوتر وتديم دور المستعمرة الصهيوني ككيان وظيفي في قلب المنطقة العربية.
بالمنطق البسيط، يُفترض أن يخدم دمج الكيان في بيئة مستقرة ومتعايشة مصالح الغرب أكثر مما يخدمه بقاء وكيله في حالة صراع دائم. ويُفترض أن تضمن التسوية للكيان الاعتراف والقبول في محيطه مع تأمين مصالح القوى الكبرى في المنطقة، وتبدو من الناحية النظرية الحل الأمثل. لكن ما يحدث فعليًا هو العكس: يُترك الكيان في وضع يشعره بأنه محاصر ومهدد، مما يدفعه إلى التعبير عمليًا عن شراسته وعدوانيته البنيويتين، وبما يضمن استمرار عدم الاستقرار. في النهاية، يبدو أن هذه الدينامية ليست عرضية، وإنما متعمدة.
تضمن ردود أفعال الكيان العدوانية بيئة إقليمية متوترة تُبقي الدول العربية في حالة من الضياع والضعف والتفكك. ولا يصعب كثيرًا سرد دور الكيان في إحباط نشوء أي قوة عربية موحدة قادرة على تحدي الهيمنة الغربية أو فرض أجندة قوية ومستقلة على الساحة الدولية. كما يضمن استمرار الشعور بالتهديد أن يبقى الكيان أداةً استراتيجية تُستخدم لكبح أي مشروع عربي قد يشكل خطرًا على المصالح الغربية في المنطقة. وهكذا، ليست إدامة الصراع الفلسطيني مجرد نتيجة لعجز سياسي، بل هي جزء من منظومة محسوبة تهدف إلى الإبقاء على الشرق الأوسط في حالة من الفوضى القابلة للإدارة.
تنتج هذه السياسة معادلة قلقة: الكيان الصهيوني يواصل ممارساته العدوانية بطريقة تجعل فكرة دمجه في المنطقة أكثر استحالة، في حين تستمر القوى الغربية في الادعاء بأنها تسعى إلى حل الصراع من دون أن تبذل أي جهد حقيقي لتحقيق ذلك. والنظام العربي الرسمي يتهرب من مسؤولياته التاريخية والأساسية عن طريق رمي كرة «حل الدولتين» من دون ممارسة أي ضغوط حقيقية لتحقيقه. ويكون ما يحدث فعليًا هو إعادة إنتاج الأزمة بأشكال مختلفة، بحيث يبقى «السلام» بوضوح مجرد ورقة تُستخدم غالبًا لإحباط المقاومة وإعدامها كخيار، بينما يظل الواقع على الأرض محكومًا بمنطق القوة والعنف.
كان أوضح مثال على تفضيل السياسات الغربية الفوضى المدارة على الاستقرار الحقيقي ما تُسمى «اتفاقيات أبراهام» التي سُوقت كاختراقٍ في علاقات المنطقة. في الحقيقة، صُممت هذه الاتفاقات بحيث تتجاوز القضية الفلسطينية، وبالتالي ضمان إبقاء جوهر الصراع بلا حل. وفي الوقت نفسه، يبقي التلكؤ الغربي في الانخراط الجاد مع إيران -وتعقيد إمكانية تفاهم العرب معها- حالة العداء الشامل قائمة بطريقة تضفي مشروعيةً على استمرار التدخلات واستغلال كل الأطراف بلا استثناء.