مأزق المرحلة الثانية من المفاوضات

 

قال الكاتب والباحث في الصحافة العبرية الدكتور حيدر البستنجي
إن المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة تتجه إلى منعطف بالغ الحساسية، حيث تزداد تعقيداتها بفعل تباين الأجندات السياسية للأطراف المنخرطة، ومناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي تعكس محاولاته المستميتة لإطالة أمد الحرب، رغم الضغوط الأمريكية المتزايدة.

وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن رجل الأعمال والمفاوض المتمرس، الذي عينه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبعوثًا خاصًا للإشراف على مسار التفاوض بين إسرائيل وحركة حماس، ستيف ويت-كوف، يقف في قلب هذه العملية.

وبيّن البستنجي أن ويت-كوف يعدّ شخصية استثنائية، فهو ملياردير أمريكي يهودي جمع ثروته من المحاماة والاستثمارات العقارية، واشتهر بقدرته الفائقة على إتمام الصفقات المعقدة، مضيفًا أن اللافت في اسمه، كما يُنطق بالعبرية والإنجليزية، أنه يحمل معنى مزدوجًا: "القرد الذكي"، وهو وصف يلخص براعته التفاوضية التي مكّنته من إنجاز المرحلة الأولى من الاتفاق عبر إقناع نتنياهو بالموافقة على التدرج في التهدئة، وضمان استمرار وقف إطلاق النار خلال المفاوضات.

ونوّه إلى أن نجاح ويت-كوف لم يكن ليتم دون ورقة ضغط رئيسية تمثلت في التهديدات العلنية التي أطلقها ترامب، والتي فسّرها البعض على أنها موجهة لحماس، بينما في الواقع كانت رسالة مباشرة إلى نتنياهو نفسه، فقد أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن استمرار تعنته قد يفضي إلى تدهور علاقاته مع واشنطن، خصوصًا وأن ترامب يسعى إلى وقف الحرب لأسباب استراتيجية تتعلق بالمصالح الأمريكية في المنطقة، وليس بدافع التعاطف مع أي طرف.

مراوغات نتنياهو

وأشار البستنجي إلى أن نتنياهو لم يتقبل فكرة الامتثال التام لمطالب الوسطاء، فلجأ إلى سلسلة من التكتيكات المماطِلة، بدأها بعرقلة تنفيذ البروتوكول الإنساني، ثم تأخير فتح المعابر، قبل أن يتحجج بواقعة استبدال جثة الإسرائيلية شيري بيباس بجثة أخرى، ما وفر له ذريعة إضافية لتعليق الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، الذين يتجاوز عددهم 600 أسير الذين تم الإفراج عنهم قبل قليل.

وذكر أن نتنياهو سعى إلى تعزيز موقفه الداخلي عبر تصريحات تصعيدية أكد فيها أن جميع الأسرى الإسرائيليين سيعودون، وأن حكم حماس في غزة سينتهي، وسيتم نزع سلاحها بالكامل، مع تشديده على أن إسرائيل لن تتراجع عن عملياتها العسكرية في الضفة الغربية، وستحافظ على وجودها في جنوب لبنان، بينما ستبقى القوات الإسرائيلية متمركزة في المنطقة العازلة على الحدود السورية، ولن تسمح للجيش السوري الجديد بالوصول إلى جنوب دمشق.

ردّ حماس والضغط على الوسطاء

واستطرد البستنجي قائلًا إن حركة حماس استنكرت مماطلة الاحتلال في تنفيذ الاتفاق، واعتبرت أن تأجيل الإفراج عن الأسرى يكشف عن مراوغات إسرائيلية متعمدة، تهدف إلى كسب الوقت وإعادة ترتيب الأولويات العسكرية على الأرض، مؤكدة أن ممارسات الاحتلال، بما في ذلك ادعاؤه بأن "مراسم التسليم مهينة"، لا تعكس سوى محاولة للتهرب من التزاماته، بينما الإهانة الحقيقية تكمن في الانتهاكات الممنهجة التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون. وطالبت حماس الوسطاء والمجتمع الدولي بتحمل مسؤولياتهم، والضغط على إسرائيل لتنفيذ الاتفاق دون تأخير.

وتابع أن إدارة ترامب مصممة على إنهاء الحرب، وهو ما يثير قلق نتنياهو، الذي يدرك أن ترامب قد يتخلى عنه في أي لحظة، خاصة بعد أن بات واضحًا أن الرئيس الأمريكي يضع إنهاء الصراعات المسلحة في أوروبا وغزة والشرق الأوسط ضمن أولوياته الاستراتيجية.

ولفت البستنجي الانتباه إلى أن هذا التوجه قد عزز إعلان البيت الأبيض عن أن الإدارة الأمريكية منخرطة بعمق في مباحثات وقف إطلاق النار، مع تكليف ويت-كوف بإجراء اتصالات مكثفة مع المستشار الإسرائيلي رون ديرمر، وكذلك مع الوسطاء في مصر وقطر، الذين أكدوا له أن حماس لن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية إلا بعد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، كما تم الاتفاق مسبقًا.
استحقاقات المرحلة الثانية ومساراتها المحتملة

وأشار إلى أن التحدي الأكبر بعد الإفراج عن 4 جثامين لجنود إسرائيليين قتلهم الجيش الإسرائيلي في غزة، مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين الذين لم يفرج عنهم الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى النساء والأطفال المدرجين ضمن استحقاقات صفقة الجثامين، يكمن فيما بعد تنفيذ هذا التبادل، حيث سيكون على نتنياهو تحديد موعد للانخراط في المفاوضات النهائية، والتي لن تبدأ إلا بحضور ويت-كوف إلى المنطقة، إذ من الواضح أن هذا الأخير لن يقبل بالمجيء لمجرد إدارة مشاكسات سياسية جديدة، فهو سيضغط لإنجاز اتفاق نهائي يقود إلى وقف الحرب بالكامل.

وبيّن البستنجي أن ترامب وويت-كوف يدركان أن أي مماطلة إضافية قد تعني عودة القتال، وهو ما لا يتناسب مع الأولويات الأمريكية، خاصة بعد أن فشلت خطة الاستثمار العقاري في غزة، والتي كانت ترتكز على تهجير أكثر من مليونين ونصف فلسطيني إلى الأردن ومصر، لتصبح الأرض مهيأة لمشاريع إعادة الإعمار وفق الرؤية الإسرائيلية - الأمريكية.

لكن بعد تعثر هذا المخطط، لم يعد لواشنطن مصلحة في استمرار النزاع، الأمر الذي استدعى تثبيت وقف إطلاق النار، وإعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يضمن استقرارًا يخدم مصالحها الاستراتيجية، وهذا يعني أن نتنياهو بات أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما القبول بالتفاوض الجاد حول مستقبل غزة وحماس، أو مواجهة واقع دولي متغير لن يسمح له بالمناورة إلى ما لا نهاية.