الملك والنواب: رسائل سياسية تُقرأ ما بين السطور
دعاء الزيود
حين يتحدث الملك، تصبح كلماته إشارات سياسية مدروسة ومناورات دقيقة على رقعة الشطرنج الإقليمية والدولية. في لقاءه مع رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي ورؤساء اللجان النيابية، لم يكن الملك فقط يُعيد تأكيد الثوابت الأردنية، بل كان يفتح أبوابًا خلفية لفهم استراتيجية موازية تتجاوز الخطاب العام. ما بين السطور، تكمن رسائل غير مرئية مشفرة حول دور الأردن المستقبلي في المنطقة، وكيف يعيد جلالته ترتيب تحالفاته بما يتناغم مع التحديات العالمية، بينما يوازن بين الفرص الضيقة التي يتيحها الوضع الاقتصادي والسياسي. إنه خطاب لا يُفهم بسطحيته، بل يحتاج إلى عين فاحصة لاستخراج دلالاته العميقة، التي تعكس قدرة ملكية استثنائية على التأثير في الحاضر والمستقبل بأدوات سياسية ذكية وفكر استراتيجي بعيد المدى.
حين قال الملك إنه "متفائل جدًا" بتحسن الوضع الاقتصادي، لم يكن التصريح مجرد رسالة طمأنة شعبية، بل يبدو أن خلفه ترتيبات على مستوى أعمق. فهل نحن أمام انعكاسات لاتفاقيات إقليمية؟ أم أن الإصلاحات الداخلية ستأخذ منحًى أكثر فاعلية في المرحلة القادمة؟ السؤال هنا ليس في ماذا قيل، بل في ما لم يُقل، وفي كيفية ترجمة هذا التفاؤل إلى واقع ملموس ينعكس على حياة المواطنين.
أكد الملك بوضوح أن الأردن "لن يتخلى عن الأمة العربية"، وهي جملة قد تبدو مباشرة، لكنها في سياقها السياسي تحمل أكثر من مجرد التزام أخلاقي. في ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة، يرسّخ الأردن موقعه كفاعل إقليمي قادر على المناورة بذكاء.
في الشأن الفلسطيني، لم يكتفِ الملك بتأكيد دعم "القرار الفلسطيني الموحد"، بل ربطه بركيزتين أساسيتين: حل الدولتين والوصاية الهاشمية، وكأن الرسالة هنا موجهة إلى الأطراف الدولية والإقليمية التي تحاول إعادة رسم التوازنات.
أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان، فالتلميح إلى "أمل كبير" في الأولى و"فرصة سانحة" للثانية يعكس إدراكًا بأن التغييرات الجارية قد تفتح نافذة جديدة للتهدئة. وهنا يبدو أن الأردن يراهن على دور دبلوماسي يعيد ترتيب الأوراق بدلاً من الاكتفاء برد الفعل.
لم يُخفِ الملك إشادته بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مشيرًا إلى جهوده في إنجاح القمة العربية الأخيرة. لكن الأهم كان الحديث عن "خريطة طريق أردنية مع السعودية ضمن الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة"، وهو تصريح يكشف عن تنسيق اقتصادي وسياسي متكامل، يتجاوز البروتوكولات المعتادة إلى مستوى أكثر تعقيدًا.
هذا المشهد يؤكد أن الأردن، رغم التحديات، لا يزال لاعبًا رئيسيًا في الإقليم، قادرًا على الحفاظ على استقلالية قراره، مع إبقاء قنواته مفتوحة مع مختلف الأطراف.
ما الذي ينتظرنا؟
بين التفاؤل الاقتصادي والتنسيق الإقليمي والتمسك بالثوابت الوطنية، تبدو المرحلة القادمة اختبارًا عمليًا لقدرة الأردن على ترجمة مواقفه إلى تأثير ملموس. فهل يملك الأردن المساحة الكافية للمناورة وسط المشهد المتغير؟ وهل سيكون القادم تعزيزًا لدوره أم تحديًا له؟
الملك لم يُجب عن كل الأسئلة، لكنه وضع إطارًا عامًا يترك المجال مفتوحًا للتحليل. ولربما هذا هو جوهر السياسة: أن تقول ما يكفي، وتترك البقية لتُقرأ ما بين السطور.