النقرش يكتب: يا أهل غزة لا تنتظروا القمة
د. إبراهيم النقرش
تُعدّ القضية الفلسطينية من أبرز القضايا التي تجمع العالم العربي، حيث تُعتبر فلسطين قلب القضايا القومية. ومع ذلك، تُواجه هذه القضية تحديات كبيرة، خاصةً في ظل التباين الواضح في مواقف الدول العربية تجاهها. تتوالى القمم العربية، وتُصدر البيانات الداعمة، لكن غالبًا ما تظل هذه المواقف حبرًا على ورق، دون خطوات عملية ملموسة.
في كل أزمة عربية، تتكرر نفس المسرحية: الإعلان عن قمة طارئة، ثم انتظار طويل لعقدها، وعند انعقادها، لا نجد سوى بيانات خجولة لا تحمل أي تأثير حقيقي. في وقت يُتخذ فيه القرار الدولي خلال ساعات أو أيام، تبقى الدول العربية عالقة في دائرة "المشاورات والتنسيق"، حتى تفقد القمة أهميتها... وتصبح كلعبة الورق صراخًا ومضيعةً للوقت أو تفرض قوى أخرى حلولها على الأرض.
الاتحاد الأوروبي اجتمع بشكل عاجل واتخذ قرارات مصيرية بخصوص الحرب في أوكرانيا، والاتحاد الإفريقي لم يتردد في عقد اجتماعات فورية واتخاذ قرارات جريئة واستراتيجية بخصوص قضية التهجير لأهل غزة والمطالبة بإعمار غزة على نفقة إسرائيل (العرب كرمًا تبرعوا بإعمارها على نفقتهم) وتحدى قرار ترامب وتهديداته... ورفعوا شكوى لمحكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني وفعلوا ما عجز عن فعله المُلهمون والذين أنعم الله علينا بقيادتهم من زعماء العرب والمسلمين، دون ضجة إعلامية ولا تطبيل ولا تزمير كأبواق الأنظمة العربية. أما في العالم العربي، فالقمة الطارئة قد تحتاج إلى أسابيع من الإعداد، رغم أن الدول التي تدعو إليها نفسها تصفها بـ"الطارئة"... ويبدأ الردح والمدح قبل أن ترى النور! والسؤال المزمن المحزن المخجل: لماذا هذا التردد والتأخير عندما (تصيح صائحة العرب) لعقد القمة؟
التأخير المدمن للقمة العربية ليس مجرد خلل تنظيمي، بل هو نتيجة طبيعية لمجموعة العوامل التي تعكس الواقع السياسي العربي المؤلم المرعب المريب. وأول هذه العوامل هو تضارب المصالح بين الدول العربية وتضادها، حيث لكل دولة حساباتها الخاصة (بالسوق أو بالصندوق)، فبعضها يسعى لاتخاذ مواقف تجاه العدوان الإسرائيلي، بينما تفضل أخرى مسارات بلغة دبلوماسية (العبد للسيد)، حفاظًا على (الأرايك والنمارق) وعلاقاتها مع القوى الكبرى، مما يعرقل أي محاولة للوصول إلى موقف عربي موحد.
إلى جانب ذلك، هناك ضغوط خارجية من القوى الكبرى، حيث تمتلك العديد من الدول العربية علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا (يسمونهم حلفاء لأكل الحلاوة بالعقول)، وأي موقف عربي قوي تجاه القضية الفلسطينية قد يُعرّض تلك العلاقات لاختبارات مفصلية، مما يدفع بعض الدول إلى التردد في اتخاذ قرارات تُفسّر على أنها مواجهة مع الحلفاء الدوليين وصدامات سياسية غير محسوبة. يضاف إلى ذلك الخوف من التبعات الداخلية، حيث ترى بعض الأنظمة العربية في تصعيد الموقف بشأن غزة خطرًا على استقرارها الداخلي، سواء بسبب الضغوط الشعبية أو خشية أن يؤدي اتخاذ مواقف جريئة إلى تصعيد سياسي داخلي لا ترغب فيه تلك الدول. كما أن ضعف الإرادة السياسية وغياب آليات التنفيذ يجعل القمم العربية مجرد لقاءات شكلية قد تُكرّس الخلافات ولا قيمة لها، فعلى عكس الاتحاد الأوروبي أو الإفريقي، لا تمتلك جامعة الدول العربية آليات تُجبر الدول الأعضاء على الالتزام بأي قرارات تُتخذ في القمة، مما يجعلها بلا تأثير عملي حقيقي. وليس هذا فحسب، بل إن هناك أطرافًا عربية (متناغمة ومتماهية) مع الاحتلال، لاتكتفي بالمماطلة أو الحياد، بل تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر على دعم مشاريع تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، سواء من خلال التطبيع والتلميع أو عبر المشاركة في خطط اقتصادية وأمنية تصب في مصلحة إسرائيل... ومنهم من رهن بنيته التحتية لأمريكا وإسرائيل، مما يجعل هذه الأنظمة أحد أكبر العوائق أمام اتخاذ موقف عربي موحد.
حتى عندما يتم تجاوز هذه العوائق وعقد القمة، فإنها غالبًا ما تنتهي بقرارات فضفاضة غير مُلزمة لا تعدل الحبر والورق الذي (ظلم بسواد وجهه) الذي كتب به وعليه، مع وعود بعقد اجتماعات لاحقة لمتابعة التنفيذ، وهو نمط متكرر لإضاعة الوقت والحقوق منذ عقود لإعطاء انطباعًا بالتحرك وامتصاص غضب الشعوب بينما يبقى الواقع على حاله.
وليس من قبيل المبالغة أن نشبّه القمة العربية (بـرجعة مهدي الشيعة المنتظر "عجل")، فكما ينتظر البعض ظهور المهدي ليغير الواقع، ينتظر البعض الآخر انعقاد القمة العربية وكأنها ستحدث تغييرًا جذريًا في مسار القضية الفلسطينية. والفارق أن الإيمان الديني (لمهدي الشيعة المنتظر) مرتبط بعقيدة، أما انتظار القمة العربية فهو رهان على سراب سياسي لا وجود له في الواقع المُعاش.
يا أهل غزة في ظل غياب الدعم العربي الرسمي وتخلي بعض الدول عن مسؤولياتها تجاه قضيتكم العادلة، لا تنتظروا قمة عربية، فالتاريخ أثبت أن الرهان على القمم العربية هو مضيعة للوقت واستنباط للخلافات ودرب مهانة للأمة والأجيال. وغياب القمة العربية وتخاذل بعض الأنظمة لا يقلل من عزيمتكم، بل يزيدكم إصرارًا وثباتًا في أرضكم. والدعم الحقيقي يأتي من الشعوب العربية المقهورة والمخذولة، المتعطشة لعناق رماحكم وقعقعة سيوفكم، وليس من أنظمة مقيدة بحسابات سياسية وتحالفات دولية أفقدتها سيادتها وواجباتها وماء وجهها تجاهكم (وكل يدّعي جمعه أنه عنترة). الوحدة الداخلية، وتعزيز القدرات الذاتية، والاستثمار في المقاومة الباسلة والإعلامية والعسكرية، هو الطريق الوحيد لمواجهة العدوان. فانتظار القمة العربية، فهو كالمستجير من النار بالرمضاء... والخشية أنه أسند (للقمة) مهمة تجريدكم من مقاومتكم التي عجز العدوان عن فعلها فاحذروها، نحن على يقين أن صمودكم وتضحياتكم ستثمر عن تحقيق أهدافكم في الحرية والاستقلال... فابقوا صامدين، فأنتم أمل الأمة العربية في التحرر والكرامة.