الغزوي يكتب: معارك الثلج نصف البريئة

  رمزي الغزوي

بعيدا عن القدرات الكبيرة التي أحرزتها الإنسانية في تكنولوجيا التوقعات الطقسية والمناخية تذكرت أجدادنا الكرام، وكيف كانوا يتوقعون ببوصلة الغريزة أن ثلجاً يانعاً كنوار البيلسان في الطريق إليهم. فعندما يكون قرص الشمس حامياً في يوم ذي برد كانوا يسمون الحالة بالشمس المطرودة من خوف ثلج قريب. وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. ونادرا ما كانت تخيب توقعاتهم.

شتاءاتنا تظلُّ كسيحة ما لم يأت الثلج فارشاً بساطه فوق روابينا. فإذا هلَّ حلمنا الأبيض دبّ الفرح في العروق لنطير كفراشة نار؛ ونبحث عن غيمة تشبه حوتاً سميناً، نهزّها هزّ الجائع للرطب، وننتظر أن يتساقط الثلج شهيا.

بعد أن نصحو كنا ننسل من دفء فراشنا متمنين يوم عطلة. يااااه، كم كان جميلاً تعليق الدراسة في الثلج. اليوم الواحد من عطلة الثلج يعدل عطلة صيفية وأكثر. والأهم أننا كنا نعتقد أن تعليق الدراسة يتم على مسامير كبيرة متينة مثبة في عرض الجدران. ولكن الولد الأبله قال لي ذات مرة إنهم يعلقونها بملاقط خشبية من آذانها الكبيرة على حبل غسيل طويل.

بسرعة نهرع إلى الشبابيك بعد أن نشبّ من الفرش نشقها قليلا قدرَ إصبعين رغم تحذير الأم ووعيدها الشديد. ونمد النظر الناعس قريبا وبعيدا. ياااااه شاب الشجر كله يا أماه، فما أجملنا مع شيبه البهي، ثم نسرع إلى الجد المكتنز بفروته لصق مدفأة الحطب، وخيوط الدخان الناعمة ترقص حواليه لنشكو إليه شيخوخة الشجر، فيبتسم ويحزن لنا قليلاً قبل أن يرد مقهقهاً، إلا الشجر يا أولاد. فشيبهُ أول الخير وباكورة العمر.

والثلج إذا ما نزل غزيراً كبيراً ومكتنزاً ومشبعاً نسميه آذان القطط؛ فنُشنِّفُ آذاننا على اتساع صواوينها؛ لنسمع قطط السماء تموء على الفئران الخانسة في دفء الجحور. كنا نتصور تلك الققط قد أرسلت آذانها لتترصد وتتربص حسيس الفئران لتنقض عليها. فهلمي أيتها السماء بقططك وادخلي بيتنا الدافئ. هلم يا صحب نكتب أغنية للثلج بالمواء ولا شيء إلا المواء.

في حضرة الثلج كانت تشتعل معاركنا نصف البريئة. فهل جربت شظية ثلج تدخل تحت الكنزة وتدغدغ دفأك الغافي؟ وأحياناً كنا نقفز فوق سواتر الخجل بشجاعة نادرة؛ فنجاهر باللعب مع البنات. نجهّز كرات الثلج المرصوصة حدّ النشاف؛ لنرشقهن من فوق أسطح المنازل قنابل محملة بكثير من القبلات. ما زالت تقشعرني قبلة الثلج.

وحدها تلك البنت التي لم تكسر خجلها لاذت كطيف خلف الشباك النصف مفتوح، وأغمضت كحل عينها قليلاً، وراحت تتلمظ على كرة ثلجٍ طائشة من ولدٍ مجنون عشّش في البال منذ شتاء فات.