إيران إلى الواجهة مجددًا... اختراقات استخباراتية تحرجها
قال رئيس برنامج الدراسات الإقليمية في مركز الشرق الأوسط للدراسات الأستاذ الدكتور نبيل العتوم إن الأجهزة الأمنية في طهران، دأبت على الإعلان بشكل دوري عن إحباط شبكات تجسس واختراقات استخباراتية، أو الكشف عن عمليات اعتقال تطال عملاء وجواسيس يعملون لصالح دول معادية.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه السردية الرسمية الإيرانية، التي تتكرر بإيقاع شبه منتظم، تكتسب زخمًا مضاعفًا في فترات احتدام الاستقطاب الإقليمي، وتصاعد حدة التجاذبات مع القوى الدولية، الأمر الذي يستدعي التوقف مليًا عند مدى صدقية ومشروعية هذه المزاعم، بعيدًا عن التسليم المطلق أو التشكيك الانفعالي.
وأشار العتوم إلى أن استدعاء السوابق التاريخية، يُمكّننا من استقراء نهج إيران في التعاطي مع مثل هذه الملفات الحساسة، ففي غير مرة، أعلنت السلطات الإيرانية عن تفكيك خلايا استخباراتية أو إحباط مؤامرات تجسس، غير أنّ ما بُذل من أدلة إسنادية كان شحيحًا إلى حدّ يثير الريبة، باستثناء حالات معدودة تم فيها بث اعترافات متلفزة لأشخاص وُجهت إليهم اتهامات بالعمالة، وهي اعترافات لطالما أُثيرت الشكوك حول ظروف انتزاعها، وما إذا كانت قد انتُزعت تحت وطأة التعذيب والإكراه، في ظل سجل إيران المثقل بالانتهاكات الحقوقية في هذا المضمار.
ويُضاف إلى ذلك، أنّ هذه الإعلانات تتماهى في الغالب مع سياقات سياسية مضطربة، تَلوحُ خلالها مؤشرات صراع مستتر أو معلن مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلًا عن تزامنها في أحيان كثيرة مع تفاقم الضغوط الداخلية، لا سيما الاقتصادية منها، التي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات غير مسبوقة من الانهيار والتدهور، ترافقت مع احتجاجات شعبية حاشدة، ومطالبات باستقالة الرئيس واستجواب كبار المسؤولين، ما يضع هذه الروايات الاستخباراتية في موضع شبهة توظيفها أداةً لتوجيه الرأي العام وصرف الأنظار عن أزمات الداخل، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ونوّه العتوم إلى أن مظنة التوظيف السياسي تتعزز في ظل غياب تقارير استخباراتية أو صحفية موثوقة صادرة عن مؤسسات إعلامية غربية أو جهات رقابية محايدة، يمكن أن تمنح الادعاءات الإيرانية شيئًا من المصداقية، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام فرضية استخدام هذه الملفات كورقة ابتزاز سياسي، أو كستار دخاني يخفي تحت ظلاله إخفاقات أمنية وعمليات اختراق فعلي، لطالما أقر بها مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى، في محافل متعددة.
واستطرد قائلًا يكفي، في هذا السياق، أن نستذكر ما كشف عنه الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، حين أزاح الستار عن حقيقة أنّ أحد مسؤولي مكافحة التجسس في وزارة الاستخبارات، كان نفسه مجندًا من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي، إلى جانب سلسلة الاغتيالات التي استهدفت نخبة من العلماء النوويين الإيرانيين في وضح النهار، داخل العمق الأمني للعاصمة طهران، بدءًا من اغتيال الدكتور مسعود محمدي عام 2010، مرورًا بمقتل كلّ من مجيد شهرياري وداريوش رضائي، وليس انتهاءً باغتيال العالم البارز محسن فخري زاده، في عملية نوعية هزت المنظومة الأمنية الإيرانية، وأبانت عن ثغرات جسيمة في بنية الأمن الوقائي داخل الجمهورية الإسلامية.
وذكر العتوم أن هذه الوقائع، التي تكشّفت تباعًا، أفضت إلى ضرب صورة الهيبة الأمنية الإيرانية، وأرست قناعة لدى الرأي العام، بأنّ الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية استطاعت اختراق جدران الحصانة المفترضة، بل والمساس بمواقع يُفترض أنها تخضع لأقصى درجات التحصين، مع ما يُضاف إلى ذلك، العملية الشهيرة لسرقة الأرشيف النووي الإيراني، التي خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليفاخر بها علنًا، كاشفًا عن وثائق سرية، وعن هوية الدكتور فخري زاده قبل تصفيته.
وفي ضوء هذه السوابق المثقلة بإخفاقات طهران الأمنية، فإنّ التصريحات الإيرانية الأخيرة، التي جاءت متزامنة مع إعلان الحرس الثوري استمرار "عملية الوعد الصادق" ضد إسرائيل، تبدو محاولة مزدوجة: فمن جهة، تسعى إيران إلى استعادة زمام المبادرة المعنوية، في مواجهة السخرية والتهكم اللذين سادا منصات التواصل الاجتماعي بشأن تلك "الوعود" التي تحوّلت إلى مادة للتندر؛ ومن جهة أخرى، تريد طهران توجيه رسائل مبطنة إلى واشنطن وتل أبيب، في سياق ما يمكن تسميته بـ"معركة توازن الردع النفسي"، وفقًا لما قاله.
وأشار العتوم إلى أن هذه المقاربة، على ما تنطوي عليه من صخب إعلامي، لا تنفصل عن سياق أعمق، قوامه المعادلة الدقيقة التي تحكم السلوك الإيراني إزاء إسرائيل، فبالتوازي مع التصعيد الخطابي، ثمة حرص إيراني جليّ على تفادي الانزلاق نحو مواجهة عسكرية مباشرة، نظرًا لما قد يستتبعه ذلك من تبعات كارثية على الأمن القومي الإيراني، لذا، تُفضّل طهران المضي قدمًا في تكتيك "حروب الوكالة"، عبر أذرعها الإقليمية كحزب الله، والميليشيات المتحالفة معها في العراق وسوريا، مع إبقاء خطوط التماس المباشرة مع تل أبيب في حالة ضبط محكم.
ولفت الانتباه إلى أن المتغير الجدير بالاعتبار، فهو التحولات التي طرأت على المشهد الدولي، مع انتقال السلطة في الولايات المتحدة من إدارة جو بايدن التي أبدت استعدادًا لإعادة إحياء المسار الدبلوماسي، إلى إدارة دونالد ترامب ذات النزعة الصدامية، متابعًا أن هذا الانتقال، في تقدير بعض المراقبين، قد يُغري صناع القرار في طهران بإظهار مرونة تكتيكية، تتيح لهم انتزاع تنازلات، سواء لجهة تخفيف العقوبات، أو الحصول على ضمانات أمنية، خصوصًا أن الإدارة الأمريكية الحالية قد تُشكل – من منظور إيران – صمام أمان يحول دون منح إسرائيل ضوءًا أخضر لشن ضربة عسكرية شاملة.
واستطرد العتوم قائلًا إنّ المناورات العسكرية التي تُجريها إيران، واستعراض قدراتها الصاروخية وحاملات الطائرات المسيّرة، تندرج في سياق الضغط المتبادل ورفع الكلفة على الخصوم، بيد أنّ هذه الاستعراضات، مهما بلغ صخبها، تظل محكومة بسقف الحسابات البراغماتية، التي تجعل من المواجهة المباشرة خيارًا مؤجلًا، وربما مستبعدًا، في هذه المرحلة على الأقل.
واختتم حديثه مشيرًا إلى المشهد الإيراني أشبه برقصة فوق حبل مشدود؛ حيث تسعى طهران إلى استعراض القوة، مع الإبقاء على قنوات الاتصال الخلفية مفتوحة، بغية تفادي الانفجار الكبير، الذي تدرك أن تكلفته ستكون باهظة، في ظل هشاشة أوضاعها الداخلية، وتعاظم اختراقات خصومها.