فرام يكتب: الموقف الأردني وفنون الرد (1/3)

  أ. د. كميل موسى فرام

تمثل الخطوات الملكية بالتعامل مع الأحداث المستجدة وخصوصا المتعلقة بفكرة ترحيل سكان غزة من أرضهم مع تحريف بوصلة الرحيل باتجاه الأردن ومصر الشقيقة بالاسم، درسا بفنون التعامل مع الأحداث التي تحتاج لتوظيف الحكمة والخبرة بالتوقيت المناسب والأسلوب الأمثل الذي يضمن النتائج ويحافظ على الحقوق، وبعيدا عن لغة العجالة والتسويف والجدل غير المنتج، وتحديدا عندما يكون الخصم بأجواء تحرم عليه وضوح الرؤية أو استيعاب الواقع من تضاريسه، فمعالجة الأمر خصوصا بعد انفجار قنبلة الترحيل وتحديد الأبعاد الجغرافية للأردن ومصر الشقيقة كدولتين مستهدفتين للاستقبال القسري، فرضت منطاد الخوف وتلبدت السماء بغيوم الحسابات المعقدة، بل شكلت فرصة للبعض لممارسة أبجديات التحليل والتوقعات بالتزامن مع الأداء الإعلامي الركيك والسطحي؛ المبرمج أو العفوي حسب درجة الاستيعاب، مستغلين مساحة الحرية التي منحها الغرب بهدف ليس بريئاً لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي للتعليق وإبداء الرأي، وبدأ البعض حملاته الداخلية والخارجية بغرس أسافين الخوف والقلق ضمن معادلات تفتقر لحروف المعطيات الواقعية، متناسين جهلاً أو قصداً التاريخ المشرف للدبلوماسية الأردنية، مرتكز السلام والعقلانية في التعامل مع الأحداث بمختلف تصنيفاتها؛ المحلية والعربية والإقليمية والدولية، حيث تحتل بؤرة دائرة المرجع والحل، يصعب القفز عنها أو تجاهلها.

الرفض القاطع لمصطلح التهجير والتوطين والوطن البديل هو واقع أبجدي وفطري لا يحتاج للتذكير أو التحديث أو اعادة التأكيد لأنه ليس مطروحا لإبداء الرأي أو فقرة خلافية، فمنذ التأسيس كانت حدود الدولة الأردنية معروفة ومعترفاً بها، وسكانه لهم جذور وطنية مرتبطة بالأرض، اهتموا ببنائه ليكون القدوة والمحج، ولن تكون هذه الأرض وطنا بديلا، بل وطنا أصيلاً تحكمه قيادة هاشمية ذات انتماء وولاء وطني وعروبي لا يستطيع أحد انكاره أو إحرافه، حيث تتمتع الدبلوماسية الأردنية بالهدوء والحكمة في التعامل مع الأحداث بمنتهى العقلانية والواقعية؛ فردود الفعل المتسرعة التي مارسها البعض للتشكيك بالموقف الأردني، قد ارتدت سهاما نازفة على قلوب من أطلقها، لأن الردود على المعطيات المستجدة تتطلب التمهل والتحليل بعيدا عن ضروب العصبية والاستعجال، ليكون الرد مناسبا ووافيا وعلينا أن نتذكر القاعدة الأساس أن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين هي ثوابت تاريخية منذ الأزل.

وعليه، أتحدث عن الرد الأردني الذي حمله جلالة الملك وأعلنه من البيت الأبيض عندما أوضح بلغة لا تحتمل ادغام المعاني عندما رفض فكرة التهجير والتوطين والتسفير والوطن البديل بأي من أشكالها ومعانيها، بل كانت درجة الوضوح أكبر عندما تحدث بالنيابة عن الأردن ومصر الشقيقة، حيث ترك للرد العربي على الخطة المقترحة مجتمعا والذي سيقرر بالقمة العربية القادمة على مقترح البناء والإعمار لقطاع غزة بعد الحرب المدمرة التي نتمنى أن تكون قد انتهت فصولها الآن؛ فالزيارة الملكية بتوقيتها كانت بشقين: لتوضيح الموقف الأردني من الفكرة بما يخصه، وتعظيم الموقف العربي الموحد لتحمل مسؤوليته.

جلالة الملك عبدالله الثاني كان الزعيم العربي الأول والمعني بالدرجة الأولى بحكم المهمة والأمانة والذي يذهب لعاصمة القرار العالمي لمقابلة الرئيس الأميركي صاحب المقترح وهو يعرف جيدا أن المناقشة ليست سهلة، ولكن المهمة ليست مستحيلة لاعتمادها على حقائق التاريخ، فكانت النتيجة النهائية التي أُعلنت من البيت الأبيض واضحة ولا غبار عليها بموقف الأردن الجلي بمعارضة فكرة التهجير والتوطين ورفض الاستقبال، وربما ليست مبالغة القول إن ذلك قد ترجم بحرفية التحليلات والتوقعات بالنتائج اعتمادا على فنون التعامل، فجلالة الملك يحمل هموم شعبه وأمته، يدرك أنه يحمل تفويضا مطلقا من أبناء وطنه، يستمد منه القوة، لم يتردد باستخدامه من منطق الحق الذي يدافع عنه بثقة وتوظيف مثالي، حينما أوصل الرسالة مباشرة بفنون الرد على المقترح لصاحبه، باسلوب تميز بفنون الحكمة والخبرة لمدرسة الهاشميين بالتعامل مع الصعاب، جمل مختصرة بلغة مبسطة حملت المعنى الذي يريد القائد إيصاله وتوضيحه؛ أتيت للقول والتوضيح، أن الحل المثالي للمشكلة التي فرضها واقع الحال الآن هي بالبناء واعادة الاعمار لأهل الأرض والسكان بحلول لا تفرض بالقوة، أو تتطلب التنازل عن الأرض، بل للتذكير بأن حل الدولتين هو الضامن الوحيد لارساء الاستقرار للجميع، والرد على الخطة المقترحة سيكون عربيا جماعيا سيقرر هذا الشهر.

الزيارة الملكية بحضور سمو ولي العهد للعاصمة الأميركية لهذا اللقاء قد حملت العديد من الرسائل التي نتمنى استيعابها لمن يبحث عن أسرار النجاح للدبلوماسية والسياسة الأردنية، وللتذكير فقد نالت الدرجة الكاملة من الادارة الأميركية ممثلة برئيس الدولة والمسؤولين بمراكز صنع القرار عندما أعلنوا الاحترام الكامل لشخصية الملك ومواقفه وللدولة الأردنية وشعبها العظيم، وما كان هذا ليتحقق لولا الحنكة وفنون الأداء التي تميز المدرسة الهاشمية، حتى التعامل مع المستجدات غير المدرجة بجدول الزيارة من حيث المكان أو التوقيت ولو كانت من باب المفاجأة، لكن التعامل معها ضمن مساق الحكمة والسيطرة، وخصوصا بتوقيت اللقاء الصحفي ومكانه، والذي يعكس فنون الاستيعاب وتوظيف الهدوء والثقة وهو موضوع حديثنا القادم بعون الله.. وللحديث بقية.