ابو خليل يكتب: قبل أن تتسع "جغرافيا التعب".. عن التنمية بالإحساس المباشر..
احمد ابو خليل
إلى الآن لا أعرف بعمق، ماذا ستعني بالمحصلة الزيارات الميدانية التي يقوم بها رئيس الوزراء جعفر حسان، لا بالنسبة إليه ولا بالنسبة للحكومة ولا للناس الذين يزورهم.
أقصد تلك الزيارات التي يقوم بها الرئيس شخصيا ومنفردا أحيانا، إلى نقاط مختارة في مواقع شعبية حقيقية تقع في عمق ما صرت أسميه "جغرافيا التعب" في الأردن. وقد قام بالعديد منها حتى الآن، في الأغوار وفي البادية وبعض القرى شمالا وحنوبا وأحياء مكتضة في المدن، الزرقاء والرصيفة والمخيمات مثلا.
شخصيا وللأسف، لم يعد أمامي متسع لممارسة طريقتي في المتابعة البحثية خلف المسؤولين، وخلف مشاريعهم وقراراتهم التنموية، وهو ما قمت ببعضه لأكثر من ربع قرن، وشكل صنعتي ومتعتي معا. ولهذا فإن ما أكتبه هنا مجرد رأي عن بعد.
الواقع أن هذه الزيارات جديدة في نوعها في حكومات العقدين الاخيرين. الجميع كان يتحدث عن الميدان، ولكن الممارسة كانت تجري بترفع إلى حد كبير. وعموما كان رؤساء الوزارات يتحدثون عن التنمية في الأطراف، ولكنهم يستخدمون المفردات "ناشفة" وبحياد وبلا قدر كاف من المعرفة المباشرة والمشاعر والعواطف والأحاسيس.
قد تفيد هذه الزيارات في زيادة شعور الرئيس بالمعنى الفعلي المحسوس لمهماته التنموية. بمعنى أنها تساعده في أن يكون شاعرا بعمق عندما ترد مفردات مثل الفقر وتراجع التنمية والخدمات أو ضعفها ومجمل حالة الناس في هذه المواقع. وهذا ليس أمرا شكليا أبدا.
خلال آخر عقدين، كان عنوان مكافحة الفقر والتنمية حاضرا بقوة في الخطاب الرسمي، وقد انفقت أموال طائلة، لا يمكن إحصاؤها فعلا، بسبب تعدد مساربها، ولكنها غالبا، وأكاد أقول دوما، كانت أقرب إلى "العبث التنموي" المر والمحزن، وهي الآن مجرد أضابير تحوي ألوفا من الأوراق والفواتير (حسب الأصول) والتقييمات والصور والتصريحات التي تؤكد على أنها "قصص نجاح"!! يا إلهي كم انتهكت هذه العبارة!
الرئيس حسان، هو بصورة أو بأخرى ابن القطاع العام، وهو لم يأت من قطاع الشركات بما فيها شركات الاستشارات. وهذا لافت ومهم. مع ملاحظة أنه أمضى فترة في منصب وزير التخطيط، ولكن في الفترة التي كانت فيها الوزارة شريكا في اتجاه تنموي منحاز ضد الطبقات الشعبية. لم يكن هو مؤسس هذا الاتجاه ولكنه مارسه كما مارسه سابقوه "وسابقته" ولاحقوه و"لاحقته" (كي لا يغضب جماعة الجندر).
وبتقديري، أو آمل أن يكون إصراره الحالي على التواصل مع الناس شخصيا، تعبيرا عن رغبة فعلية في تغيير لغة ومنطق العمل التنموي في البلد.
أهمية ذلك، لا تتعلق فقط بالجانب الاقتصادي للتنمية. فالدولة مطالبة دوما بتوسيع نطاق نظرها ورؤيتها، ذلك أن القضايا العامة متصلة رغم تعدد عناوينها، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة.
إن الأوساط الاجتماعية الشعبية التي عبرت عن تضامنها مؤخرا مع الدولة في قضية كبرى وطنية هامة مثل الصمود في وجه المطالب الأمريكية، تستحق أن توجه إليها أنظار حقيقية. مثلما كانت تستحق عندما وقفت هذه الأوساط الشعبية ذاتها بوجه مشاريع الفوضى "الثورية" قبل 14 عاما، ثم للأسف جرى تجاهلها لاحقا.
تفيد التجربة الأردنية عبر عقود منذ ستينات القرن الماضي، أن الجمهور عندما يشعر بصدق التواصل الذي يتْبعُه أداء مناسب تنمويا واجتماعيا، فإنه قادر ومستعد على العطاء بلا حدود في شتى الميادين، وأولها ميدان حماية الوطن والدفاع عنه.
من فضلكم، إن "جغرافيا التعب" تتسع. ولكنها لحسن الحظ للآن لا تزال تحت بصر المخطط وصاحب القرار، وهذه ميزة أساسية. وتكمن الخطورة في أن تتحول بؤر التعب والفقر إلى مواقع مُجْهَلة تبتعد بالتدريج عن الدولة ومؤسساتها ونظمها التعليمية والصحية.. وغير ذلك، مما يصعب المهمة. والمقلق أن مؤشرات كهذه بدأت تظهر.
إن التنمية بالإحساس والمحبة والمشاعر الصادقة والعواطف (لا تستغربوا هذه المفرادات هنا) تعني امكانية بناء نموذج تنموي واقعي يلتقي فيه المسؤول مع الناس في منتصف الطريق، لا يتعالى عليهم، ولا يعتد بما يعرفه أو بما خطط له في مكتبه، بل يستمع إليهم باعتبارهم يملكون معرفة لا يملكها هو حكما، فيتعلم منهم، ويطور خبراته بينهم. ولا تقلقوا، ليس عليكم أن تنفقوا مالا أكثر، بل أن تنفقوه في الموقع الصح.