ما على الدول العربية أن تدركه لتعزيز منعتها وحماية أمنها
قال الكاتب والمحلل السياسي الدكتور محمد الزغول إنه في إطار استكمال تحليل التحولات الإقليمية الكبرى، يبرز بوضوح تأخر الفاعل العربي في التفاعل مع مستجدات الساحة السورية، حيث لم يتحرك النظام الرسمي العربي إلا عقب دخول الأطراف الأخرى إلى دمشق واستكمالها إسقاط النظام السوري، ومن ثم، فإن المشاركة العربية جاءت لاحقة على صناعة الحدث، وبالتالي اقتصرت مساهمتها على نتائج المشهد السياسي، دون أن تسهم في صياغته أو هندسته منذ البداية.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أنه كان من الطبيعي أن يتضاءل هامش الاستفادة العربية، بالنظر إلى أن الفاعل الأول – وهو الذي يشكل معادلات التغيير – هو الذي يحوز النصيب الأكبر من المكاسب، بينما ينحصر دور المشارك المتأخر في تقاسم النتائج وفق ما تم فرضه من وقائع على الأرض.
وبيّن الزغول أن هذا التأخر في التفاعل العربي يمكن اعتباره امتدادًا لمعضلة أعمق تتعلق باستمرار الأنظمة العربية في توظيف سياسات تقليدية متقادمة، لم تعد ملائمة لمتطلبات التعاطي مع التحولات البنيوية المتسارعة في بنية القوة الإقليمية، ولا مع أنماط التحالفات الجديدة التي أخذت تتبلور في أعقاب السابع من أكتوبر، فبدلًا من أن تبادر العواصم العربية إلى قيادة المبادرات الاستراتيجية، بقيت رهينة استجابات متأخرة، اكتفت في أغلب الأحيان بردود الأفعال.
وأشار إلى انتهاء عصر الفاعل "الميليشياوي" كقوة إقليمية مؤثرة، فقد شهد العقدان الماضيان صراعًا توازن فيه النظام العربي الرسمي مع محورين متقابلين: محور يميني متطرف تقوده إسرائيل بدعم أمريكي، ومحور ميليشياوي إيراني تمدد عبر وكلائه في أكثر من ساحة، وبين المحورين، نجح النظام العربي في ترويج ذاته كمعسكر اعتدال، وكمركز ثقل عقلاني يسعى إلى استقرار المنطقة، بعيدًا عن مغامرات التصعيد والتوتر.
ولفت الزغول الانتباه إلى أن المشهد بدأ يتغير جذريًا بعد السابع من أكتوبر؛ إذ أدى إنهاك الميليشيات المدعومة من إيران، وتراجع فعاليتها من لاعبين إقليميين إلى مجرد قوى محلية محصورة في جغرافياتها الضيقة، إلى خلخلة معادلة الردع السابقة، فقد انكفأ حزب الله من دور المؤثر الإقليمي في ملفات سوريا، واليمن، وفلسطين، إلى لاعب محلي يتخندق ضمن الإطار اللبناني، بينما حماس، بدورها، تراجعت من كونها رأس حربة لمحور المقاومة الإقليمي، إلى فاعل يواجه تحديات داخلية معقدة، تحت وطأة الضربات العسكرية الإسرائيلية.
هذا التحول أسقط الدور الوسيط الذي كان يلعبه النظام العربي، بوصفه صمام أمان بين قطبي التطرف (يمين إسرائيلي – ميليشيات إيرانية)، واضطره إلى مواجهة سياسات اليمين الإسرائيلي والأمريكي مباشرة، بعد أن زال الحاجز الإيراني الميليشياوي الذي كان يتولى تلك المواجهة بالوكالة، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ولفت الانتباه إلى أن النظام السياسي العربي يشهد تحوّلات جوهرية غير مسبوقة، أفرزتها متغيرات بنيوية معقّدة جعلت من السياسات التقليدية، التي ظلّت لسنوات طويلة ركيزة التعاطي العربي مع التحديات الإقليمية والدولية، أدوات غير ناجعة في مواجهة الواقع الجيوسياسي المتحوّل، فقد بات لزامًا على صانع القرار العربي إعادة تعريف محدّدات الفعل السياسي وفق مقاربات أكثر ديناميكية، تستند إلى إدراك عميق لتوازنات القوى ومتغيرات البيئة الاستراتيجية التي أفرزت سياقات جديدة تُحتّم على الدول العربية إعادة تموضعها وفق منهجية أكثر تكاملًا وفاعلية.
في هذا السياق، برزت معالم تحوّل استراتيجي في بنية العلاقات العربية - العربية، حيث انتقلت من نمط التشاور البروتوكولي إلى مستوى أعلى من التماسك البنيوي والتنسيق الاستراتيجي العابر للحدود الوطنية، في ظل إدراك جماعي بأن التهديدات الراهنة لا تستهدف مصالح جزئية أو ملفات ثانوية، بقدر ما تمسّ جوهر النظام السياسي العربي ذاته، ما يفرض ضرورة إعادة صياغة آليات العمل المشترك، وفق مقاربة تستند إلى رؤية أكثر شمولية واستباقية، وفقًا لما قاله الزغول لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ونوّه إلى أن هذا التحوّل تجلّى بوضوح في الموقف الأردني خلال زيارة الملك عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم يكن الموقف الأردني منفصلًا عن الإطار العربي العام، بل جاء متسقًا مع مواقف الدول المحورية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، في محاولة لترسيخ نهج قائم على التشبيك السياسي، وتعزيز مرجعية القرار العربي الجماعي في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، مضيفًا أن الأردن أظهر إدراكًا عميقًا لحساسية اللحظة السياسية، حيث ربط موقفه بمخرجات القمم العربية، مثل دعوة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقمة الرياض التمهيدية، فضلًا عن قمة الجامعة العربية، باعتبارها الإطار المرجعي لصياغة الموقف العربي تجاه الطروحات السياسية المتداولة، وعلى رأسها خطة تهجير جزء من سكان قطاع غزة، ومشروع إعادة الإعمار الذي يُطرح برؤية سياسية جديدة تفرض محدّدات غير معهودة في مسار التعاطي مع الملف الفلسطيني.
بالتوازي مع هذا التنسيق الرسمي، يشهد المشهد السياسي العربي تحوّلًا تمثل في حالة التلاحم غير المسبوق بين النظام الرسمي والشارع العربي، حيث تشكّلت لحظة إجماع نادرة حول ضرورة رفض المشاريع المفروضة على المنطقة، ما انعكس في موجة من الحراك الشعبي داخل الدول المعنية، وعلى رأسها الأردن ومصر، دعمًا للموقف الرسمي في مواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية، وهذا التقارب بين الشارع والقيادة السياسية يشكّل متغيّرًا جديدًا، إذ لطالما اتسمت العلاقة بين الطرفين بالتباعد في بعض الدول ومنها مصر، لكنّ المرحلة الحالية أفرزت وحدة في الرؤية والمسار، عزّزت من قدرة الدول على المناورة السياسية، ورفعت منسوب الثقة الشعبية في القرارات السيادية للدول المعنية.
من زاوية أخرى، باتت المقاربة العربية الجديدة ترتكز على مبدأ بناء شبكة دعم سياسية واقتصادية للدول الواقعة في دائرة الضغط، بحيث لا تظلّ هذه الدول رهينة لسياسات المساعدات المشروطة أو الإملاءات الخارجية، إذ يجري العمل على بلورة منظومة عربية أكثر استقلالية، تُوفّر بدائل استراتيجية تعزّز مناعة القرار العربي، وتمكّن الدول من التصدي للضغوط، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، عبر تأمين مظلّة دبلوماسية واقتصادية تمكّنها من انتهاج سياسات سيادية، بعيدًا عن الابتزاز الدولي الذي لطالما شكّل أداة ضغط على قرارات الدول العربية، وفقًا لما قاله لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
واختتم الزغول حديثه بالقول إننا إزاء لحظة مفصلية تفرض إعادة تعريف فلسفة العمل السياسي العربي وفق محدّدات أكثر تطورًا، بحيث تتجاوز المقاربات التقليدية غير الفاعلة، وتنتقل نحو سياسات ذات تأثير حقيقي، قادرة على إعادة ضبط توازنات القوى الإقليمية، وفرض واقع جديد يرتكز إلى الندية السياسية، وصياغة خطاب دبلوماسي عربي أكثر تماسكا وتأثيرًا، يعبّر عن رؤية جماعية متكاملة، تحافظ على مصالح الدول العربية، وتضمن استقلالية قراراتها بعيدًا عن التبعية السياسية أو الضغوط الخارجية.