العرب يكتب: الملحدون العرب: عبيد العدم

  د. محمد العرب

في عالم يتصارع فيه الإنسان مع معاني وجوده، يظهر الملحد العربي ككائن يبحث عن هوية جديدة في فضاء فارغ من الإيمان، لكن ما يثير الدهشة ليس رفضه للعقيدة، بل في هشاشة حججه وتناقض مساراته الفكرية ، إنه ليس ابن فلسفة عميقة أو مشروع فكري جاد، بل غالباً نتاج ردود أفعال متسرعة، وطفرة نفسية أقرب للتمرد العاطفي منها للبحث الفلسفي الحقيقي .!

الملحد العربي، في معظم صوره، هو كائن عالق بين ماضٍ يرفضه ومستقبل لا يعرف كيف يصوغه، يعيش في حالة من الإنكار الوجودي لا تتجاوز كونها صرخة فارغة في وادٍ لا يسمع صداه إلا هو نفسه.

المشكلة الكبرى مع الملحد العربي أنه لا يأتي إلى الإلحاد من باب التفكير الفلسفي العميق كما فعل فولتير أو نيتشه أو سارتر، بل يصل إليه غالباً عبر دروب مملوءة بالخذلان الشخصي، الصدمات العائلية، أو حتى الفشل في تحقيق الذات لذا يصبح الإلحاد بالنسبة له ليس موقفاً وجودياً نابعاً من فهم معقد مرتبك للكون والحياة، بل مجرد رد فعل على مؤسسة دينية أو مجتمع محافظ او تجربة شخصية عائلية ، هو في كثير من الأحيان ليس أكثر من شخص جريح يحمل خيبة أمل على كتفيه ويبحث عن طريقة ليصرخ بها: أنا هنا، حتى وإن كان ذلك بإنكار كل شيء.

تأمل في خطاب الملحد العربي وستكتشف هشاشة بنائه الفكري. ستجد أن أغلب نقاشاته لا تتجاوز مستويات سطحية من فهم الدين، فهو يركّز على تفاصيل ثانوية ويحوّلها إلى قضايا كبرى. يهاجم النصوص الدينية دون فهم سياقاتها، ويخوض في قضايا فلسفية معقدة دون أن يمتلك الأدوات الفكرية اللازمة لذلك. يقتبس من نيتشه، لكنه لم يقرأه بعمق، ويتحدث عن التطور الدارويني وكأنه شرح لحالة نفسية أكثر منه نظرية علمية. في الحقيقة، هو يعاني من اضطراب معرفي يجعله يخلط بين الإلحاد كفلسفة عبثية وبين الإلحاد كموضة فكرية.

ولعلّ أكثر ما يفضح هشاشته هو افتقاره إلى البديل. الملحد العربي لا يقدّم مشروعاً فكرياً أو أخلاقياً بديلاً عمّا يهدمه ، هو ببساطة ينكر وجود الله عز وجل لكنه لا يعرف كيف يملأ هذا الفراغ الروحي الذي يتركه وراءه. يتحدث عن الحرية بينما هو أسير لفكرة أنه يجب أن يُثبت للعالم أن الدين خطأ. يعيش في حالة من النفي الدائم دون أن يمتلك الشجاعة ليبني على هذا النفي شيئاً وهنا تكمن المأساة: فالفراغ الذي يخلقه في داخله يتحول مع الوقت إلى صحراء قاحلة لا تزهر فيها أي فكرة حقيقية.

على المستوى النفسي، يعاني الملحد العربي من قلق وجودي مستمر. هو لا يهرب فقط من فكرة وجود الخالق العظيم ، بل يهرب من نفسه أيضاً ويبحث عن إجابات في الفلسفة الغربية، لكنه لا يجد فيها سوى مزيد من الأسئلة. يحاول أن يتصالح مع ذاته من خلال إنكار الروح، لكنه يفشل في إقناع نفسه أن الحياة مجرد تفاعلات كيميائية لا معنى لها. في أعماقه، يدرك أن الإنسان ليس مجرد آلة بيولوجية، لكن كبرياءه يمنعه من الاعتراف بذلك. لذا يعيش في حالة دائمة من التوتر بين ما يؤمن به داخلياً وما يحاول أن يُقنع به الآخرين.

من الناحية الثقافية، الملحد العربي هو في الغالب كائن يعيش في اغتراب مزدوج. فهو مغترب عن ماضيه الذي يرفضه، ومغترب عن الحاضر الذي لا يجد فيه مكاناً لهويته الجديدة ، يحاول أن يستعير من الثقافة الغربية نماذج فكرية دون أن يفهم السياق الذي وُلدت فيه هذه النماذج. يتحدث عن العلمانية وكأنها الحل السحري لكل مشاكله، دون أن يدرك أن العلمانية نفسها لم تكن يوماً فلسفة وجودية، بل مجرد نظام سياسي ولد من رحم صراعات خاصة بأوروبا المسيحية في العصور الوسطى.

لكن الأسوأ من كل ذلك هو نرجسيته الفكرية. الملحد العربي غالباً ما يتعامل مع إلحاده كوسام شرف، كأن رفضه للدين يجعله تلقائياً أكثر ذكاءً أو وعياً من الآخرين. ينظر إلى المؤمنين بنظرة دونية، وكأنهم كائنات أقل تطوراً فكرياً وهذه النرجسية تمنعه من رؤية حقيقة بسيطة: أن الإيمان ليس علامة على الجهل، كما أن الإلحاد ليس علامة على الذكاء. بل إن الكثير من أعظم العقول في التاريخ كانوا مؤمنين، كما أن جميع الملحدين المعاصرين لا يمتلكون عمقاً فلسفياً حقيقياً !

في سياق رحلة الملحدين العرب من الصدمة إلى الضياع، تتجلى ملامح أزمتهم بوضوح في أساليب إعلانهم عن أنفسهم. فهم لا يكتفون باعتناق فكرة الإلحاد كقناعة شخصية، بل يتحول الأمر لديهم إلى استعراض وجودي صاخب، كأنهم يسعون لملء فراغ داخلي صارخ عبر لفت انتباه الآخرين. يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي كمسارح افتراضية يعرضون عليها أفكارهم بأسلوب يتراوح بين الاستفزاز المقصود والسخرية المفرطة.

يعتمدون على لغة هجومية ضد المعتقدات الدينية، وكأن معركتهم الحقيقية ليست مع الأفكار بقدر ما هي مع الأشخاص. يتلذذون بخلق جدل عقيم، ليس لإثراء الحوار الفكري، بل لإثبات تفوقهم الذهني الزائف. أحياناً يتقمصون دور (المثقف الثائر) الذي يرى في كل نقاش فرصة لإعلان التمرد على كل ما هو مألوف، دون تقديم طرح فكري متماسك. هذه الحاجة المستمرة للتصادم تعكس هشاشة قناعاتهم أكثر مما تعكس قوتها، وكأنهم يحاولون إقناع أنفسهم قبل الآخرين بما يدّعون الإيمان به: العدم المطلق.

ختاماً الملحد العربي ليس أكثر من انعكاس لأزمة حضارية أعمق. إنه نتاج فراغ روحي وفكري يعاني منه شخص فقد البوصلة يعتقد أنه تحرر من قيود الدين، لكنه في الحقيقة عالق في سجن من نوع آخر: سجن إنكار الذات والهروب من مواجهة الأسئلة الكبرى التي لا يمكن للإلحاد أن يجيب عليها..؟

هو يرفض فكرة الله عز وجل ، لكنه عاجز عن إيجاد معنى حقيقي للحياة بدونها. وهذا هو التناقض الأكبر: أن تهرب من السؤال الوحيد الذي يجعل وجودك ذا قيمة.