قندح يكتب: في يوم الوفاء للمتقاعدين العسكريين

  د.عدلي قندح

في الخامس عشر من شباط من كل عام، يقف الوطن بأكمله إجلالًا واحترامًا لأولئك الذين نذروا حياتهم لحمايته، جنودًا وضباطًا حملوا أرواحهم على أكفهم في ميادين الشرف، وسهروا ليالي طويلة على الحدود وفي الثغور، ليظل الوطن آمنًا ومستقرًا. يوم الوفاء للمتقاعدين العسكريين ليس مجرد مناسبة للاحتفال الرمزي، بل هو تأكيد على أن تضحيات هؤلاء الرجال لا تُنسى، وأن الدولة والمجتمع يظلان مدينين لهم بالشكر والعرفان، ليس فقط بالكلمات، بل بالأفعال التي تضمن لهم حياة كريمة تليق بمكانتهم ودورهم العظيم.

لقد مضى خمسة عشر عامًا دون أن يشهد المتقاعدون العسكريون أي تعديل على رواتبهم التقاعدية، رغم أن معدلات التضخم ارتفعت بنسب تراكمية تجاوزت 30% خلال هذه الفترة، وتكاليف المعيشة تضاعفت، مما جعل القوة الشرائية لرواتبهم تتراجع بشكل ملحوظ. مع مرور الوقت، بات هؤلاء الأبطال يواجهون تحديات اقتصادية متزايدة، خاصة مع التزاماتهم العائلية واحتياجاتهم الصحية والتعليمية. كثير منهم وجدوا أنفسهم مجبرين على البحث عن مصادر دخل إضافية في سنوات يفترض أن تكون للتكريم والراحة، بينما آخرون باتوا يعتمدون على الدعم والمساعدات لتأمين احتياجاتهم الأساسية. ورغم هذه التحديات، لم يتوقف عطاؤهم، بل ظلوا عنصرًا فاعلًا في المجتمع، يساهمون بخبراتهم في مختلف المجالات، ويمثلون نموذجًا للالتزام والانتماء.

الدولة أدركت أهمية دعم هذه الفئة العزيزة، فجاءت المبادرة الملكية، وعلى رأسها برنامج «رفاق السلاح»، بهدف تحسين أوضاع المتقاعدين العسكريين عبر مجموعة من المشاريع والخدمات التي تشمل الدعم المالي، وتمويل المشاريع الصغيرة، وتقديم تسهيلات للحصول على الرعاية الصحية والتعليمية. هذه المبادرة تمثل خطوة إيجابية، حيث تهدف إلى تحسين مستوى معيشة المتقاعدين وتعزيز دورهم في المجتمع، لكنها ما زالت بحاجة إلى تطوير مستمر، بحيث تواكب التغيرات الاقتصادية وتوفر حلولًا أكثر استدامة، تضمن لهم الاستقرار المالي والاجتماعي على المدى الطويل.

الاهتمام بمتقاعدي الجيش لا يُعد فقط واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، بل هو أيضًا ضرورة اقتصادية واجتماعية. فرفع مستوى معيشتهم لا يعني فقط تحسين حياتهم الشخصية، بل ينعكس على الاقتصاد الوطني ككل. عندما يحصل المتقاعدون العسكريون على دخل عادل يتناسب مع احتياجاتهم، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة قدرتهم الشرائية، مما يساهم في تحفيز الأسواق المحلية ودعم الأنشطة الاقتصادية. كما أن تحسين أوضاعهم يقلل من الأعباء التي تتحملها الدولة من خلال برامج الدعم والمساعدات، مما يسمح بتوجيه الموارد بشكل أكثر كفاءة. والأهم من ذلك، أن الاهتمام بهم يعزز الثقة في المؤسسات العسكرية ويبعث برسالة طمأنينة إلى من لا يزالون في الخدمة، بأن مستقبلهم بعد التقاعد سيكون مضمونًا، وأن الدولة لن تنساهم بعد أن يؤدوا واجبهم تجاه الوطن.

وبناءً على ذلك، فإن الحاجة أصبحت ملحّة اليوم لإعادة النظر في رواتب المتقاعدين العسكريين بشكل جاد، بحيث يتم تعديلها وفق رؤية مستدامة تأخذ بعين الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة، وخصوصا أن أخر تعديل وزيادة على رواتبهم كانت عام 2010، كما يعلم الجميع. من الضروري أن تعمل الحكومة على دراسة تصحيح الرواتب التقاعدية الآن، كخطوة عاجلة لإنصاف هذه الفئة، بالتزامن مع وضع آلية واضحة لتعديل الرواتب سنويًا وفق معادلة تعتمد على معدل التضخم وكلفة المعيشة. إن وجود مثل هذه الآلية سيضمن عدم تكرار المشكلة مستقبلاً، وسيحافظ على القيمة الحقيقية لرواتبهم، بحيث لا تتآكل بمرور الزمن. مثل هذه الخطوة ليست فقط ضرورة اقتصادية، بل هي رسالة وفاء حقيقية لمن قدموا حياتهم في خدمة الوطن، وهي حق لهم بعد سنوات طويلة من التضحية والعطاء.

إن يوم الوفاء للمتقاعدين العسكريين هو فرصة للتأكيد على أن التكريم الحقيقي لا يكون فقط من خلال الاحتفالات، بل من خلال اتخاذ خطوات عملية تضمن لهم حياة كريمة ومستقرة. هؤلاء الرجال لم يتراجعوا يومًا عن أداء واجبهم، ولم يترددوا في تقديم أرواحهم فداءً للوطن، واليوم، يقع على عاتق الجميع مسؤولية رد الجميل لهم، ليس من باب العطاء، بل من باب الحق والإنصاف. إن الوفاء لهم لا يجب أن يكون مجرد شعار، بل يجب أن يُترجم إلى سياسات مستدامة تحفظ لهم كرامتهم وتعزز استقرارهم، ليبقى الوطن وفيًا لمن دافعوا عنه، ليس فقط في يوم تكريمهم، بل في كل يوم من أيام حياتهم.