العثامنة: هكذا يفكر صانع القرار في البيت الأبيض

قال مدير عام مركز مشورة للدراسات مالك العثامنة إنه لطالما شكَّلَ فهمُ العقلية الأمريكية تحديًا جوهريًا للعالم العربي، إذ إننا غالبًا ما نقاربُ السياسة الأمريكية من منظورنا التقليدي دون إدراك البُنية الفكرية والبراغماتية التي تحكمها.

وأوضح لدى حديثه لقناة المملكة، رصدته صحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية، أن الولايات المتحدة ليست امتدادًا بسيطًا لأوروبا، فهي كيانٌ نشأ على أسس مختلفة تمامًا، من حيث فلسفة الدولة، وأدوات اتخاذ القرار، والمرجعيات القيمية التي تحكمها، ذلك أن مفهوم "العالم الجديد" الذي يلازم توصيف أمريكا أكثر من مجرد دلالة جغرافية، فهو يعكس منظومة فكرية مغايرة جذريًا للعالم القديم، بما في ذلك أوروبا الغربية، ومن هنا، تبرز إشكالية الفجوة المعرفية التي تحول دون فهمٍ معمقٍ وصائبٍ لطريقة تفكير الساسة الأمريكيين وآليات اشتغال مؤسساتهم.

الحادي عشر من سبتمبر وإعادة تشكيل الوعي الأمريكي

وأوضح العثامنة أن الحادي عشر من سبتمبر لم يكن مجرد حدث إرهابي مدوٍّ فقط، وإنما زلزالًا إدراكيًا داخل العقل السياسي الأمريكي، مهَّد لتحولات بنيوية في مقاربة واشنطن للعالم، مستشهدًا بلقاءٍ جمعه مع أحد الشخصيات المؤثرة في الكونغرس الأمريكي، والذي قال إنهم استيقظوا في صباح 11 سبتمبر ووجدوا أن المحيط الأطلسي قد اختفى، في عبارةٍ تشير إلى انهيار جدار العزل النفسي والجيوسياسي الذي كانت تعيشه أمريكا، ووعيها الصادم بأن الأمن القومي لم يعد محصنًا خلف الجغرافيا المعزولة.

وبيّن أن هذا الإدراك الجديد فرض على صانع القرار الأمريكي تحولات جذرية في معادلة التفاعل مع العالم، وهو ما انعكس في إعادة هيكلة الأولويات الاستراتيجية، بدءًا من مفهوم "الحرب على الإرهاب"، مرورًا بتعزيز النزعة الأحادية في التدخلات الخارجية، وصولًا إلى صياغة أنماط جديدة في استخدام القوة الصلبة والناعمة على حد سواء.

ولفت العثامنة الانتباه إلى أن الرئيس دونالد ترامب يُمثل نمطًا سياسيًا مختلفًا عن التقليد الأمريكي الذي ترسخ بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ليس نتاج المدرسة السياسية التقليدية التي أنتجت رؤساء من طراز روزفلت، أو حتى نيكسون وريغان، بل أقرب إلى نموذج رجل الأعمال الأمريكي الفج، الذي ينظر إلى الدولة كما ينظر إلى الشركة، حيث الصفقة هي المبدأ، والمكاسب هي المعيار، والمرونة في المبادئ ضرورة لضمان تحقيق أكبر قدر من العوائد.

وأشار إلى أن هذا المنظور يفسر الكثير من سلوكيات ترامب السياسية، سواء في تعامله مع الحلفاء أو الخصوم، فهو يعتمد استراتيجية تفاوضية تقوم على طرح أقصى سقف ممكن من المطالب، لإجبار الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات جوهرية، وهي تقنية مألوفة في عالم الأعمال الأمريكي، غير أن تطبيق هذا النهج على السياسة الخارجية ولَّد حالة من الاضطراب، لأن السياسة بطبيعتها ليست سوقًا تجارية، بل منظومة توازنات معقدة تُبنى على تراكمات دبلوماسية ومصالح طويلة الأمد.

إعادة الاصطفاف

عند مقارنة إدارة بايدن بإدارة ترامب، نجد أن بايدن لم يقدّم تحولًا جوهريًا بقدر ما سعى إلى استعادة التقليد السياسي الأمريكي القائم على الإدارة المؤسساتية، غير أن الواقع أثبت أن العودة إلى النهج التقليدي لم تكن كافية لحل الأزمات البنيوية، وما فعله ترامب، على الرغم من كل الانتقادات، أنه ألقى حجرًا في المياه الراكدة، وأجبر الجميع على إعادة تموضع استراتيجي، وفقًا لما قاله العثامنة.

وذكر أن هذا التحول انعكس في مواقف دول رئيسية، كالسعودية التي أصبحت أكثر وضوحًا في مقاربة القضية الفلسطينية، ومصر التي أعادت تقييم دورها الإقليمي بناءً على معادلة أكثر صلابة، وهنا، يتجلى أثر السياسة الأمريكية عنصرًا حاسمًا في إعادة رسم ملامح الاصطفافات الإقليمية والدولية.

واستطرد العثامنة قائلًا إن أحد أبرز ملامح إدارة ترامب كان صعود شخصيات يمينية متطرفة داخل البيت الأبيض، ممن ينتمون إلى مدرسة "البراغماتية المتوحشة" التي لا تؤمن إلا بالمصالح المباشرة، وهذا التوجه وجد صداه لدى حكومة نتنياهو، التي استغلت البيئة السياسية الجديدة لتعزيز مشاريعها التوسعية، مستندةً إلى تقاطع المصالح مع إدارة أمريكية لا ترى في القيم الليبرالية التقليدية إلا عوائق أمام تحقيق المكاسب المادية والاستراتيجية.

وتابع متسائلًا ما إذا كانت إدارة بايدن قادرة على فرض قيود على الحكومة الإسرائيلية، ذلك أن الواقع يشير إلى أن إدارة بايدن لم تمتلك الأدوات الكافية لكبح جماح اليمين الإسرائيلي بنفس الطريقة التي فعلها بعض أسلافه، مما أتاح مساحة أوسع لنتنياهو للمضي قدمًا في سياساته المتشددة.

مشروع تفكيك الدولة العميقة

ولفت العثامنة الانتباه إلى أن هناك أطروحة متداولة في بعض الأوساط السياسية الأمريكية، ترى أن ما قام به ترامب يعد محاولة تفكيك منهجي لركائز الدولة الأمريكية العميقة، وهذه النظرية تستند إلى مجموعة من الإجراءات التي تبناها ترامب، مثل تقليص نفوذ البيروقراطية الفيدرالية، وتعطيل وكالات حكومية، وإعادة النظر في دور المؤسسات التقليدية، وصولًا إلى تعليق المساعدات الخارجية، التي كانت منذ عقود جزءًا أساسيًا من أدوات النفوذ الأمريكي الناعم.

وأضاف أن إحدى أبرز هذه التحولات كانت إعادة تعريف دور USAID، التي لطالما كانت الذراع الناعمة للدبلوماسية الأمريكية، ففي حين كانت هذه المساعدات تُوظَّف كأداة تأثير، باتت في عهد ترامب ورقة ضغط تُستخدم بأسلوب صدامي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذا التحول عارضٌ أم أنه يمثل بداية نهج جديد للسياسة الخارجية الأمريكية؟.

حتى على المستوى الداخلي، هناك إشارات إلى أن ترامب كان يسعى إلى تغييرات أكثر جذرية، قد تصل إلى محاولة تعديل الدستور نفسه، وهو أمر بالغ الصعوبة لكنه يعكس مدى طموحاته في إعادة تعريف هوية أمريكا السياسية والاجتماعية.

وبيّن العثامنة أن التعامل بذكاء مع السياسة الأمريكية، يتطلب منا ضرورة إدراك أنها ليست كيانًا متجانسًا، وإنما شبكة معقدة من المصالح، والصراعات الداخلية، والتوجهات المتضاربة، مشيرًا إلى أن الفارق بين رجال الأعمال والسياسيين، بين التيارات اليمينية واليسارية، وبين أصحاب النزعة الأحادية والمدافعين عن النظام الدولي، كلها عوامل تحدد مسار السياسات الأمريكية أكثر مما يفعله شخص الرئيس وحده.

وبالتالي، فإن فهم واشنطن لا يكون من خلال إصدار الأحكام العاطفية أو الاستجابة الانفعالية، وإنما عبر دراسة ديناميات صنع القرار، والوعي بآليات التأثير، والقدرة على بناء استراتيجيات تضمن تحقيق المصالح بعيدًا عن الرهانات الخاطئة أو التوقعات غير الواقعية.