العرب يكتب: هل يصبح الفنتانيل الشرارة الخفية لحرب عالمية قادمة..؟
د.محمد العرب
في عالم تتغير فيه أساليب الصراع وتتجاوز الحروب حدود الجغرافيا، ظهر الفنتانيل كتهديد مزدوج ليس فقط كمخدر فتاك يغزو الشوارع، بل كسلاح كيميائي غير تقليدي قادر على زرع الموت في صمت !
الفنتانيل ذلك المركب الصناعي الذي طوره الدكتور بول يانسن عام 1960 لأغراض طبية مشروعة، تحول من مسكن للألم إلى أداة إبادة صامتة تجتاح المجتمعات بلا صوت ولا رائحة حيث تكمن خطورته في قوته الفائقة فهو أقوى من المورفين بنحو خمسين إلى مئة مرة، وجرعة صغيرة منه كافية لقتل إنسان خلال دقائق معدودة.
انتشر الفنتانيل في البداية كدواء يستخدم لتخفيف آلام مرضى السرطان أو بعد العمليات الجراحية الكبرى، لكنه خرج سريعاً عن السيطرة مع تصاعد موجات الإدمان في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. تكمن خطورته في أنه عديم اللون والرائحة، مما يجعله غير قابل للكشف بسهولة. يمكن استنشاقه أو امتصاصه عبر الجلد، وحتى جزيئات دقيقة منه تكفي لإحداث انهيار تنفسي قاتل. ملايين الأرواح وقعت ضحية هذا السم الصامت، مع وفاة أكثر من مئة ألف شخص في الولايات المتحدة فقط في عام 2021، معظمهم بسبب جرعات زائدة مرتبطة بالفنتانيل أو مشتقاته.
هذا المخدر لا يتسلل فقط عبر الحدود بل عبر السياسة والجغرافيا والاقتصاد ؟
تُتهم مختبرات غير قانونية في الصين بأنها المصدر الرئيسي للفنتانيل غير المشروع، حيث يتم تصنيعه وتهريبه إلى الولايات المتحدة عبر شبكات تهريب معقدة بالتعاون مع عصابات المخدرات المكسيكية ولا يقتصر الأمر على تجارة غير مشروعة فقط، بل يبدو وكأنه جزء من صراع غير معلن بين القوى العالمية وفي خضم التوترات الجيوسياسية، يطرح البعض تساؤلات حول ما إذا كان تدفق هذا المخدر القاتل جزءًا من استراتيجية أوسع للحروب غير التقليدية، حيث يتحول المخدر من مجرد أداة للإدمان إلى سلاح يستهدف بنية المجتمع نفسه.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في إمكانية استخدام الفنتانيل كسلاح كيميائي في الحروب أو الهجمات الإرهابية. فمع خصائصه القاتلة وسهولة تصنيعه وتوزيعه، يتحول إلى أداة فتاكة يمكن نشرها عبر الهواء أو الماء أو الطعام. تخيل فقط مقدار الضرر الذي يمكن أن يحدثه إذا تم إطلاقه في محطة قطارات مزدحمة أو مزجه مع إمدادات مياه مدينة كبيرة. تجربة القوات الروسية خلال أزمة الرهائن في مسرح موسكو عام 2002، عندما استخدموا مشتقاً من الفنتانيل لإنهاء الحصار، تبرز خطورة هذا السيناريو. فقد أدى استخدام الغاز إلى مقتل أكثر من 120 رهينة، مما أظهر كيف يمكن لمادة طبية أن تتحول إلى أداة قتل جماعي دون الحاجة لتفجير أو إطلاق رصاصة واحدة.
القدرة على استخدام الفنتانيل كسلاح لا تقتصر فقط على الجماعات الإرهابية أو الشبكات الإجرامية، بل يمكن أن يتحول إلى جزء من ترسانة الحروب المستقبلية. يمكن لدول أو جهات فاعلة غير حكومية استغلال طبيعته الصامتة لضرب الخصوم دون ترك أثر واضح. الخطر هنا لا يكمن فقط في القتل المباشر، بل في خلق حالة من الذعر وعدم الثقة في البيئة المحيطة. كيف يمكن للناس أن يشعروا بالأمان إذا كان الخطر غير مرئي ولا يُمكن التنبؤ به؟
التحدي الأكبر يكمن في صعوبة السيطرة على انتشار الفنتانيل إذا تم استخدامه كسلاح. على عكس الأسلحة الكيميائية التقليدية مثل السارين أو غاز الخردل، فإن الفنتانيل ومشتقاته يمكن إنتاجها في مختبرات صغيرة بأدوات بسيطة نسبياً وهذا يعني أن الجماعات الصغيرة، وحتى الأفراد، يمكنهم تصنيع كميات قاتلة دون الحاجة إلى دعم حكومي أو موارد ضخمة. والأسوأ من ذلك، أن الجرعات القاتلة صغيرة جداً لدرجة أنه يمكن تهريبها بسهولة عبر الحدود دون اكتشافها.
الاستجابة لهذا التهديد المعقد تتطلب مقاربة متعددة الأوجه. يجب تعزيز التعاون الدولي لمراقبة إنتاج وتوزيع المواد الكيميائية المرتبطة بالفنتانيل، مع فرض عقوبات صارمة على الدول أو الكيانات التي تتساهل في تنظيم هذه الصناعة. كما يجب تطوير تقنيات أكثر تقدماً لاكتشاف آثار الفنتانيل في الهواء والماء، وتدريب فرق الطوارئ على التعامل مع حالات التعرض لهذا النوع من السموم.
لا يمكن اعتبار الفنتانيل مجرد مخدر قاتل او عقار للإدمان لأنه وجه جديد للحروب الحديثة، حيث يتحول العلم والدواء إلى سلاح، ويتحول الخطر من جبهة القتال إلى قلب المدن والمجتمعات. في عالم تتغير فيه ملامح الصراع، علينا أن ندرك أن الحروب القادمة قد لا تُخاض بالبنادق والدبابات، بل بجزيئات صغيرة لا تُرى بالعين المجردة لكنها تحمل في طياتها قدرة على تدمير حضارات بأكملها.
قد لا يقتصر تأثير الفنتانيل على كونه سلاحًا صامتاً يفتك بالمجتمعات من الداخل، بل ربما يُشكل شرارة لصراع عالمي غير تقليدي. تخيل تصاعد الاتهامات بين القوى الكبرى حول تورط دول معينة في تصنيع وتصدير هذه المادة القاتلة لدول أخرى بهدف زعزعة استقرارها. في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، يمكن أن يتحول الفنتانيل إلى ذريعة لحرب باردة جديدة أو حتى مواجهة مباشرة، خاصة إذا ما ارتبطت هذه المادة بحوادث جماعية مروعة. والأسوأ من ذلك، أن مصانع الظل التي تنتج هذه السموم ليست سوى قمة جبل الجليد، فقد يكون هناك مختبرات سرية تطوّر مواد أشد فتكاً، قادرة على محو مدن بأكملها دون طلقة واحدة.