البراري: فلسطين ليست عقارًا للمساومة... وتصوير إسرائيل دولة مانحة للأرض سذاجة

قال أستاذ العلاقات الدولية حسن البراري إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - وفي سياق ينضح بالنظرة الاستعمارية الكولونيالية - يتعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها مجرد ورقة على رقعة شطرنج جيوسياسية يمكن تحريكها وفق أهوائه، متوهّمًا أن فلسطين ليست سوى ملكية عقارية شخصية يستطيع إعادة توزيعها، وأن الفلسطينيين ليسوا سوى كتل بشرية قابلة للنقل والتهجير وفق مشيئته. 

وأبدى استغرابه لدى حديثه لتليفزيون "العربي"، كانت قد رصدته صحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية، افتقاد ترامب لأي فهم تاريخي أو إدراك سياسي لطبيعة الصراع، إلى جانب إصراره على تجاهل حقائق راسخة تؤكد أن الفلسطينيين يعدون جزءًا من معادلة تاريخية ضاربة الجذور، قدموا خلالها تضحيات غير مسبوقة في العصر الحديث، وظلوا رغم العقود المتواصلة من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني متمسكين بأرضهم في مشهد صمودي أسطوري، ذلك أن ترامب "الساذج" يتوهم، بأن الشعب الفلسطيني مستباح ويسهل اقتلاعه أو إعادة توطينه بقرار فوقي. 

وبيّن البراري أن الاعتقاد بأن بضع كلمات يمكن أن تغيّر خارطة الشرق الأوسط أو تفرض وقائع جديدة على الأرض لا يعكس سوى انفصال مرضي عن الواقع، إذ إن أربعًا وسبعين سنة من النضال الفلسطيني، وما تبعها من سبعة وأربعين يومًا من القتل والتدمير خلال العدوان الأخير على غزة، لم تفضِ إلا إلى تعزيز قناعة الفلسطينيين بأن بقاءهم على أرضهم قدر لا رجعة فيه، الأمر الذي يجعل من هذه الطروحات مجرد تكرار ممجوج لأوهام استعمارية لطالما فشلت في تطويع الإرادة الشعبية الفلسطينية.

وعلى الرغم من أن مقاربات ترامب تبدو أقرب إلى الفانتازيا السياسية منها إلى الرؤية الاستراتيجية المدروسة، إلا أنها في جوهرها ليست مجرد تصريحات عشوائية تُلقى جزافًا، وإنما تمثل بالونات اختبار لقياس ردود الفعل الإقليمية والدولية، وتحديد سقوف المساومات المحتملة مع العواصم العربية، فالرجل الذي دأب على التعامل مع السياسة بمنطق رجل الأعمال يدرك أن هذه الطروحات ستُواجَه بموجة استنكار، لكنه يراهن، كما فعل سابقًا، على أن بالإمكان استخدام هذه الأوراق لابتزاز بعض الدول العربية ودفعها إلى تقديم تنازلات مقابل التراجع عنها، وفقًا لما صرّح به.

وأشار البراري إلى أن هذا الرهان يبدو هذه المرة أكثر هشاشة من أي وقت مضى، خصوصًا في ظل وضوح المواقف العربية، حيث أعلنت المملكة العربية السعودية بجلاء أنها لن تقبل بأي شكل من أشكال التطبيع دون مسار سياسي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، كما أن الأردن، الذي دفع أثمانًا غالية على مدار عقود لحماية القضية الفلسطينية، لم يترك مجالًا للالتباس بشأن خطوطه الحمراء، التي تمثل حقائق راسخة في الوجدان الأردني الرسمي والشعبي، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لمصر ودول عربية أخرى.

على الضفة الأخرى، لا يمكن تجاهل أن الطروحات الغربية التي تسير على ذات النهج، كمواقف بعض الساسة الأمريكيين أمثال مندي وولكر، تعكس استمرار العقلية الكولونيالية التي تتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم مجرد سكان أصليين يمكن تصفيتهم أو تهجيرهم، وفق النموذج الذي جرى تطبيقه على الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، متناسين أن القضية الفلسطينية ليست مسألة لجوء أو استيعاب، وإنما صراع تحرري ضد استعمار استيطاني إحلالي، كان ولا يزال السبب الجوهري في نكبة الفلسطينيين، وهو ذات الاحتلال الذي يواصل توسعه الممنهج عبر مشاريع الضم والتهويد والتطهير العرقي.

ولعلّ ما يفاقم من زيف هذه الطروحات أن معظم سكان غزة، الذين يتحدث بعض الساسة الأمريكيين عن ضرورة إعادة توطينهم، هم في الأصل مهجّرون قسرًا من مدنهم وقراهم داخل الأراضي المحتلة عام 1948، الأمر الذي يجعل من أي حديث عن "منحهم أراضي بديلة" محاولة مفضوحة لتكريس نكبة جديدة، بدلًا من تصحيح المأساة التاريخية التي بدأت عام 1948، وبذات القدر من التضليل، يحاول البعض تصوير الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 على أنه "تنازل كريم"، متناسين أن هذا الانسحاب لم يكن سوى هروبًا اضطراريًا فرضته المقاومة المسلحة، ولم يكن بأي حال من الأحوال مكرمة من قوة احتلال ما زالت تمارس سياسات القتل والحصار والتجويع بحق سكان القطاع.

وأمام هذه المشاهد المتسارعة، تبدو الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، إذ لم يعد هناك بديل عن ترسيخ معادلة الصمود باعتبارها السلاح الأهم في مواجهة هذه الطروحات الإقصائية، وهو ما يفرض على الدول العربية، من جانبها، مسؤولية اتخاذ خطوات عملية تتجاوز حدود الإدانات الخطابية، فالتعامل مع هذا المخطط يقتضي رفضًا قاطعًا لأي مقاربات تعيد إنتاج سيناريوهات التهجير القسري، كما يتطلب الشروع الفوري في إعادة إعمار غزة دون إخضاع ذلك لأي مساومات سياسية، فضلًا عن ضرورة إعادة تقييم شكل العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، خصوصًا فيما يتعلق بملفات التعاون الأمني والقواعد العسكرية، إذ لم يعد منطقيًا أن تواصل بعض الدول العربية تقديم تنازلات استراتيجية لواشنطن بينما تصر الأخيرة على دعم المشروع الصهيوني بأكثر أشكاله تطرفًا.

ولفت البراري الانتباه إلى أن الرسالة التي ينبغي أن تصل إلى البيت الأبيض واضحة لا لبس فيها، وهي أن الانحياز الأعمى لإسرائيل لن يكون دون كلفة، والمضي قدمًا في تبني مشاريع التهجير القسري والتطهير الديمغرافي لا يمكن أن يمر دون أن يكون له ارتدادات سياسية واستراتيجية على المصالح الأمريكية في المنطقة، أما الرهان على إمكانية فرض حلول تصفوية بالقوة، فهو رهان محكوم عليه بالفشل، لأن فلسطين ليست مجرد "عقار" يمكن بيعه أو التفاوض عليه، والصراع ليس مجرد معادلة ديمغرافية، مضيفًا أن ذلك يظهر في مشهد تاريخي يؤكد مجددًا أن الإرادة الشعبية قادرة على إسقاط حتى أكثر المشاريع الاستعمارية جبروتًا.