عايش يكتب: الردة العربية المبرمجة
حسني عايش
قامت النهضة العربية التي انطلقت بالثورة العربية الكبرى في الحجاز على أن العرب في أقطارهم المختلفة أمة واحدة، وانهم كالجسد إذا اشتكى عضو منه تداعت له بقية الأعضاء في الصد والرد، وأن مصير العرب الذين قسمهم الاستعمار الأوروبي هو الوحدة أو الاتحاد. وكان العربي في تلك الفترة ينشد أنشودة الشاعر فخري البارودي الجميلة:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
هكذا نشأ الأطفال، وانصقل الشباب في تلك المرحلة. كانوا يحبون أمتهم ويرفعون رؤوسهم عالياً بها، فهي أمة عظيمة أسهمت كثيراً في الحضارة الإنسانية. وعندما كانت في اوج ازدهارها، كانت أوروبا تعيش في العصور المظلمة، وأعظم ملك فيها شارلمان كان أمياً. وقد اشتد الوعي بذلك وامتد حتى طاول عنان السماء.
كان عند الأطفال والشباب وبقية الناس آنذاك آمال كبار في دحر الاستعمار ونيل الاستقلال وصد الصهيونية وإسرائيل عن الهدف، ولكن الجيوش العربية في سنة
1948/1949 التي دخلت فلسطين لتطرد اليهود منها سرعان ما هُزِمتْ، لأنها كانت في حينه مبتدئة بل ومن صنع الاستعمار نفسه. وهكذا نشأت كارثة فلسطين التي استفزت آنذاك جميع العرب وجميع المسلمين.
ظن العسكر بأنهم بالاستيلاء على السلطة سيوقفون هذا الفشل وسينتشلون الأمة من قاع البير، فأخذت الانقلابات العسكرية تقع وتتوالى، ولكنها قضت على الديمقراطية الناشئة واستفزت الأقوام غير العربية المشاركة في الوطن التي أخذت تتمرد أو تثور عليه للانفصال.
ولما كان الغرب صهيونيا ولا يريد للعرب ان ينتصروا يوما على إسرائيل ويحرروا فسطين، فقد انطلق لتشويه الفكر العربي وتبديد الجهد العربي، فانغمست دولهم الوليدة في الانقسام ولكن باسم فلسطين، فهزمتهم إسرائيل ثانية في «نكسة» 1967، واستولت بها على فلسطين بكاملها. كما افشلت أميركا حرب 1973، وتداعيات ذلك معروفة، وأهمها اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي الذي تحول فيما بعد وبقدرة قادر - غير معروف - إلى صراع فلسطيني (لا عربي) إسرائيلي ليس إلا.
كان لسان العرب في مؤتمر مدريد لتسوية «القضية الفلسطينية» هو: كل واحد يقلع شوكه بيده.
وهكذا تم دفن شعارات الحرية والوحدة والثأر والتضامن العربي بنسبة الاخفاقات السياسية والعسكرية إلى الأمة المتخلفة وليس إلى القطر أو إلى الانقلاب الذي أخفق، كما حلّت الخصوصية القطرية محل الهوية العربية «المغيبة».
انعكس النجاح الإسرائيلي الغربي في إيصال العرب إلى هذه الحالة المزرية الآن ببروز الإقليمية، ثم تحولت الإقليمية إلى عشائرية، واخيرا إلى أنانية، وكأنها صارت أيدولوجيات بديلة للأيدولوجية «العربية القومية»!!!
نجح العداء الإستراتيجي الصهيوني الإسرائيلي الغربي في قتل القيم العربية التي كانت رافعة للأمة،
كالمروءة، والشجاعة، والكرامة، والتضامن.. وأحلت محلها النأي بالنفس عن قضية فلسطين والقضايا العربية، وانشغال الناس اليومي بالأقوات، وتدهور مهنية التعليم ومكانة المعلم فلا يقوم له أحد، بل بلغت المهانة بنا افتخار الواحد منا بإتقان اللغة الإنجليزية/ الأجنبية، وبضعفه في لغته العربية قراءة وكتابة وتعبيراً حتى وإن كان استاذ جامعة، وعندما تنبهه إلى ذلك يقول لك: إنني غير مختص باللغة العربية مع أن الأجانب الذين يتقن لغتهم لا يخطئون في لغاتهم في التخصصات التي يعلمون.
بلغ الانحطاط الفكري والسياسي عند الكثير من المثقفين إلى حد شتم طوفان الأقصى وشجبه مع أن من يشجبه ينطق بلسان الصهيونية الإسرائيلية الغربية التي خططت إستراتيجياً لكل ذلك، ناسياً ان فلسطين وغزة بالذات بلد عربي مغتصب وأنه محاصر براً وبحراً وجواً لدرجة استفزاز ذلك لشعوب العالم الأخرى التي أيقظها طوفان الأقصى. هؤلاء المثقفون كانوا هم النتاج المستهدف لتلك الإستراتيجية، مع أن المثقف العربي النهضوي الأول كان منذ سايكس بيكو ووعد بلفور وحتى هزيمة 1967 يعتبر نفسه شريكا في المسؤولية عن ضياع فلسطين، وأن عليه واجباً مقدساً نحو تحريرها.
لقد تغلغلت الإستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية الغربية الخفية في العقول، وسيطرت على السياسة والثقافة والإعلام، وحتى على اللغة. انتهى الاعتزاز بالأمة، وكأنها بادت أو ماتت بموت الضمير العربي ولم يعد لها منبر للسيف أو للقلم. هذه الحالة الكئيبة ليست نابعة من نظرية مؤامرة وإنما مؤامرة صهيونية إسرائيلية غربية حقيقية مبرمجة ومستمرة إلى الساعة.