العرب يكتب: مع من نتحاور؟

 

الدكتور محمد العرب

 

في عمق الظلام، حيث الرياح تصرخ كالأشباح، وحيث يتبدد الضوء في الفراغ، أتساءل بمرارة: مع من نتحاور؟

أمع الصدى الذي يعيد كلماتنا خاوية كروح أضناها الانتظار؟ أم مع الظلال التي تتراقص في زيفها، ولا تفهم سوى لغة الصمت المسموم؟

الحوار كان يوماً أداة للبناء، لكن كيف نحاور من سرق الكلمة وأفسد المعنى؟ كيف نمنح صوتنا لمن لا يعرف سوى الصراخ؟

العالم اليوم كعاصفة عمياء، تجتاح أرواحنا دون هوادة، والوجوه من حولنا ليست إلا أقنعة. خلفها، يختبئ الجشع، الكذب، والجبن. الكلمات نفسها أصبحت رصاصات تطلق بلا هدف، مسمومة بنوايا خبيثة.

مع من نتحاور؟

مع السارق الذي يغتال الحق في وضح النهار؟

مع الساقط الذي باع شرفه على أرصفة المصالح؟

مع الدخيل الذي جلب معه رياح الغدر؟

أم مع العبد الذي اختار طوعاً قيوده، وتنازل عن إنسانيته مقابل وعود زائفة؟

إن الحوار مع هؤلاء عبث، كأن تناجي الريح أو تحاول أن تقنع البحر أن يتوقف عن هيجانه. هم لا يسمعون، لأن آذانهم صماء عن الحق. لا يرون، لأن عيونهم معصوبة بالزيف. لا يفهمون، لأن عقولهم عبءٌ على رؤوسهم، لا أداة للتفكر.

هذا الزمن ينهش أرواحنا كوحش جائع، يتركنا بلا مأوى فكري أو أخلاقي. كل محاولة للحوار تبدو كصرخة في الهاوية، تضيع بين زئير العاصفة وضجيج العبث.

أي جدوى في الحديث مع من جعل الجشع إلهه، والذل طريقه؟ أي معنى للحوار مع من أضحى عبداً، لا يملك قراره ولا إرادته؟

هؤلاء لا يفهمون لغة الحوار، لأنهم اعتادوا لغة الانحناء، ولغة البيع، ولغة الصمت المذل. كل كلمة تُقال أمامهم تصبح جريمة، وكل فكرة تُناقش بينهم تصبح تهديداً

الحوار ليس للضعفاء ولا للعبيد. الحوار يحتاج إلى نفوس حرة، إلى قلوب تحمل همَّ الحق، وعقول تعي أن الكلمة مسؤولية. كيف نحاور من سرقوا ضوء الشمس وجعلوا الليل أبدياً؟ كيف نتحدث مع من يعتقدون أن العتمة هي السبيل الوحيد للبقاء؟

العاصفة لا تهدأ، بل تزداد وحشية. ومع كل يوم، يُبتلع صوت جديد في دوامة الصمت، وتُخنق فكرة أخرى في قبضة الزيف. لكننا نعلم يقيناً أن الحوار مع سارق، أو ساقط، أو دخيل، أو عبد، ليس إلا هدراً للنفس.

الحوار الحقيقي يكون مع الأحرار، مع الذين يحملون في أعماقهم ناراً لا تخمد، شجاعة لا تهتز، وصوتاً لا يُقمع. أما البقية؟ هم جزء من العاصفة، لا يسمعون سوى صراخها، ولا يفهمون سوى لغتها.

في النهاية، مع من نتحاور؟

لا مع الصدى، ولا مع الظلال، ولا مع الفراغ. نتحاور فقط مع من يستحق أن يسمع صوت الحقيقة، أما غير ذلك، فإن الصمت أكثر شرفاً من هدر الكلمات.