وليد عبد الحي يكتب: الدراسات المستقبلية بين الاسير والعاشق

 

وليد عبد الحي

منذ 45 سنة أخذتني الدراسات المستقبلية معها ، لكني حائر في هذه العلاقة الملتبسة ، هل أنها اسيرها القابع في سجونها وانتظر بجعة سوداء تطلق سراحي ؟ ، أم أنا عاشق أعادت هذه الدراسات صياغة مشاعره فانفلت منطقه وبدأ يستسلم لمدونات أوامرها ونواهيها ، فأنْجَبت هذه العلاقة بعد زواج كاثوليكي طفلة اسميناها "ربما" .

ما يتبلور لدي تحت سقف "ربما" ان الانسان الذي اكتشف الآلة او التكنولوجيا ستعود الآلة لاكتشافه هو لاحقا ، وأظن ان التكنولوجيا بمفهومها الواسع (من أدوات مادية او افتراضية او مناهج نظر في الوجود ومكوناته مما لم نعتد عليها) هي التي ستكون وحدة التحليل مستقبلا، ويكفي أن اشير الى أن ارتباطي ببعض جمعيات الدراسات المستقبلية الدولية جعلني على صلة بألادبيات الخاصة بهذا الحقل المعرفي، واصبحت اجد كتبا بعضها يكاد يفوق الموسوعة البريطانية في حجمه تحمل عناوين مثل: حقوق الانسان الآلي، الحكومة الذكية(أي التي يكون رئيس الوزراء فيها كومبيوتر) او الجامعة الذكية، او الانتخاب الذكي أو البطالة الحميدة او الشمس الثانية او مجتمعات الفضاء او الغاء المقابر او النمو الخضري بالسرعة المطلوبة او السيارة الذكية او الجيوش الآلية او الافلام بدون ممثلين او التحول البشري الى طيور او نهاية العائلة او الغاء الليل والنهار او المتعة الجنسية دون الطرف الآخر او التحكم في مسار الغيوم لاسقاط امطارها حيث تشاء ....الخ.

في محاضرته المنشورة يحدثنا بنيامين تالين(Benjamin Talin) العام الماضي عن انتقال الدراسة المستقبلية من "التنبؤ الى اكتشاف الممكنات " وهو ما يعني ان نقاط التحول لن تكون مجرد استجابة للاتجاهات الاعظم "Mega-trends" بل هي قَبَسٌ فكري يلمع في خيال عبقري فردي فيكشف عن أن ما نعتبره "مما لا شك فيه" الى "كل الشك فيه"، وهنا ينبلج السؤال الاكثر خطورة :ماذا لو اصبح "العباقرة " هم القاعدة الشعبية ، وكانت هذه القاعدة الشعبية هي جماهير السايبورغ " Cyborg" ، ولكن ما الذي يدفعنا للتفكير بهذه الطريقة، وما هي المناهج وطرائق البحث في هذا الاتجاه ؟ ان استبدال المناهج المعيارية واحلال المناهج الاستكشافية بدلا منها هو المدخل الاول، ثم تكاتف المناهج الكمية بالكيفية ولكن بالتدرب على تحويل الكيف الى كم وتحويل الكم الى كيف (كما في تحليل التدرج السببي أو تقنية المحاكاة وغيرها)، فمثلا يوصلنا دولاب المستقبل(Futures wheel) الى ان هناك علاقة بين المناخ وبين ظهور أديان جديدة ، او ظهور ثقافات فرعية جديدة لم يألفها التراث الانساني او ظهور آيديولوجيات تتبناها آلات الذكاء الاصطناعي ..لكن العقل المقيد سيرى في ذلك "اسطورة "..اما الدراسة المستقبلية فلا تقبل القضبان حولها، فهي لا ترى المجتمع والبيئة والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة إلا نظاما متداخلا (Steep Analysis) والضرورة تقتضي رصد التغير الكلي والجزئي في كل منها وبناء مصفوفات لتحديد المحركات (Drivers)، مع ضرورة التنبه الى ان تحيز المصدر يقود الى فرضية متحيزة –وهذه تقود لتحيز الاختيارات ثم تحيز الاحتمالات وبالتالي تحيز التنبؤ، وللخروج من هذه الاشكالية لا بد من البدء بالمصادر المعارضة لقناعاتك الحالية .

من كل ذلك نصل الى ان الدراسات المستقبلية يسيطر عليها حاليا توجهات ستجعل موقع اي مجتمع في عالم اليوم مرهونا بمدى ارتباطه بالآتي:

أ‌- الذكاء الاصطناعي وتوفر المعلومات والبيانات (AI-Big Data) وسيكون خلال العقود القادمة هو "سيد التطور"

ب‌- التكنولوجيا الكمومية التي ستساهم في معالجة البيانات بشكل مختلف عن ما الفناه من معالجات الكومبيوتر الذي بين ايدينا الآن، واهم من ذلك هو حلها للمشكلات المعقدة من جانب، وتقديم الحلول بسرعة كبيرة لم نألفها من جانب آخر.

اننا نسير لمنظومة جديدة في العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، فلو سألنا ما هي البنية التحتية والفوقية للسايبورغ القادم المحتمل ؟ هل ستبقى معاييره القيمية ومنظومته الاخلاقية وشِعره وعشقه وموسيقاه وفلسفته هي ذاتها؟ وهنا اعود لسؤالي :هل انا عاشق الدراسات المستقبلية ام أسيرها ؟ وهل ستموت ابنتي "ربما" ؟..ربما.