الإعلام... ماكنة غسل الدماغ...!
أكرم عطالله
في خمسينيات القرن الماضي كان بن غوريون يشير لثلاثة جيوش عربية ينبغي تحطيمها كي تعيش إسرائيل بسلام، هكذا كان يرسم عقيدته الأمنية وهو ما كتبه محمد حسنين هيكل وهو ينقب في تاريخ تلك المرحلة: الجيش المصري والعراقي والسوري أي جيوش العواصم المركزية القومية في الإقليم.
وإذ تمكنت إسرائيل من إخراج الجيش المصري من دائرة القتال باتفاق بعد حرب أكتوبر فقد تكفل بول برايمر بقرار حل الجيش العراقي أما الجيش السوري فكانت 450 ضربة إسرائيلية خلال ثلاثة أيام تقضي على كل ممكناته في عملية وصفتها إسرائيل بأنها الحدث الأهم من عقود.
في ذروة تلك العملية كانت كبرى أساطيل الإعلام العربي تشيح بوجهها عما يحدث مركزة كل ما لديها وبكل إمكانياتها من كاميرات ومحللين على سجن صيدنايا الكئيب «ذي العشرة طوابق تحت الأرض» لأن الطوابق الثلاثة فوق الأرض ينتهي تحرير السجناء منها خلال ساعات، لكن كان يجب اختراع الطوابق العشرة ومعدات الحفر في الأرضيات الإسمنتية لأيام كانت تكفي للتغطية على تحطيم الجيش ...!
وبينما كانت الدبابات الإسرائيلية تسيطر على أهم مواقع استراتيجية في الشرق الأوسط تطوي قرية بعد الأخرى، كان تركيز الإعلام على طائرة سورية تقوم برحلة داخلية من حلب لدمشق بتقارير تتم تكرارها على مدار الساعة، لأن أول طائرة في رحلة لم تتوقف أهم كثيراً من التركيز على أول دبابة إسرائيلية تدخل أرض سورية مبشرة باحتلال طويل وجديد لأراضٍ عربية.
الجولاني (أو الشرع) الذي لا يذكر الرجل بالجولان عندما سألته مراسلة «بي بي سي» عن إسرائيل أجاب بأن سورية تعبت من الحروب، وهو الرجل الذي عاش حياته مجاهداً أممياً، ولفرط أمميته كان قد غادر بلده مبكراً ليحرر العراق لكن حين تعلق الأمر بإسرائيل فقد تعب من الجهاد رغم أن الأيديولوجية التي يحملها الرجل لا تعتبر أن للجهاد نهاية، لكن تغيرات طرأت وصفقات تمت وهندسة جرت في إطار شرق أوسط نتنياهو تتطلب الكثير، لكن أول ما تطلبه هو الأسطول الإعلامي المرافق لتلك الهندسة.
الأمر يتعلق بإيران ولم يكن يحتاج كثير من التحليل، فقد صنعت دائرة من النار حول إسرائيل، هذا ما كان يقصده نتنياهو وهو يبشر بالشرق الأوسط، ولم يخفِ أن سقوط النظام في سورية هو جزء من الهندسة لهذا الشرق، أما أمر حقوق الإنسان العربي فليس قصة في العرف الأميركي أو الإسرائيلي لأن أكثر من قتل من العرب الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد أظهر السابع من أكتوبر ولبنان خطراً وجودياً على إسرائيل كان يتطلب إزالته، فالأسد الذي لم يحارب إسرائيل، كانت حدوده آمنة وحافظ على الحياد في حرب غزة لكنه كان الطريق لحزب الله الذي يجب قطعه لتجفيف أحد أكبر ممكنات إيران وأكثرها تسليحاً.
هكذا كان الإعلام يقوم بعملية مسح أدمغة جر لها الرأي العام الذي تتم السيطرة عليه بوسائل وتقارير يعرف المشتغلون بالمهنة كيف تتم صناعتها، وتأثر بها بعض النخب والكتاب الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بنيران الأسطول الإعلامي، ينظرون للحريات رغم وجودهم في بلدان لا تقل كثيراً في انعدامها عن نظام الأسد، لكن الهندسة الأكبر لا تترك لكثير ممن ترنحوا تحت وقع مدافع أساطيلها كثيراً من التفكير حتى أن الجولاني سليل القاعدة وداعش والنصرة يصبح الأكثر ديمقراطية في الشرق الأوسط ....!
رغم أن رجاله يضربون الناس في دمشق بسبب السجائر باعتبارها مخالفة للدين، هذه صور وغيرها يكتبها كاتب إسرائيلي مثل ناحوم برنياع الذي يحاول أن يكتب عن واقع مغاير، فهو لم يتأثر بماكنة غسل الدماغ العربية وتقاريرها ومصالحها الصغيرة.
إن إسرائيل تحتل 440 كيلومتراً مربعاً من أراضي دولة عربية فهذا ليس مهماً في الإعلام العربي، المهم أن إيران المطلوب رأسها وأذرعتها تلقت ضربة استراتيجية، فقد كانت تسيطر على سورية أما الآن فمن يسيطر هو تركيا وهذه ليست معضلة، حتى أن الرئيس ترامب أشاد بتركيا وبات واضحاً أن مفتاح دمشق انتقل إلى أنقرة.
وهكذا تساوت الدول الإقليمية غير العربية المتنازعة على النفوذ أو على الرجل العربي المريض، العراق لإيران وسورية لتركيا التي يداعبها حلم الشام، أما القدس فهي خارج أحلام الخلافة، وفلسطين لإسرائيل حيث يجري تشطيب ملفها مستغلة إسرائيل الفعل المغامر وغير المحسوب لمخططي السابع من أكتوبر، أما العرب فقد خرجوا بخفي حنين وهذا مشكوك فيه أيضاً.
هل يكفي ذلك لصناعة هدوء في المنطقة بعد أن حازت كل دولة إقليمية على دولة عربية ؟ أغلب الظن أن مشروع إسرائيل ما زال يحتاج لرأس المحور بعد أن تمكن من اصطياد الأطراف بالرمح لا بالشبكة، لأن الرمح هو ما يسيل الدم، حينها يمكن أن نتحدث عن هدوء.
فلن يسأل أحد الجولاني عن الجولان ولا هيئة الشام عن الجهاد والقدس ولا عن القرى السورية ولا حتى عن حقوق إنسان، سيكون هدوء بعد أن تنتهي ترتيبات الشرق الأوسط وحينها ستهدأ مدافع الإعلام العربي المصاحب للمعركة.
قبل السابع من أكتوبر كان هناك بعض الهيبة للمحور الإيراني ووحدة ساحاته، كانت إسرائيل تقف أمامه بقدر من الخوف على قدرة الردع وتآكلها وحجم قوة خصمها وما يملك، آما الآن فهي تعيش نشوة انتصار لم تتخيلها في أسعد أحلامها كيف ولماذا ؟
لا يشهد تاريخ العرب إجابات عن أسئلة كهذه وعن الهزائم لأن تاريخهم طافح بالانتصارات، فلم يعرفوا سوى الانتصارات. والغريب أنهم في ذيل الأمم وتتقاسمهم الأمم.