(السلطة المطلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية)
الدكتورة مريم اليماني
تعتبر السلطة قوةً قادرةً على تشكيل المجتمعات وتوجيه سلوك الأفراد، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها مخاطر كبيرة قد تؤدي إلى تفشي الفساد واستغلال النفوذ. يُقال: "السلطة المطلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية"، وهذا المبدأ يُظهر كيف يمكن للسلطة أن تكشف عن جوانب مظلمة في شخصية الإنسان.
عندما يمتلك الفرد سلطة مطلقة، تتلاشى الضوابط الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تقيد سلوكه. يميل الشخص الذي يتمتع بسلطة غير محدودة إلى اتخاذ قرارات مستبدة، وقد يشعر بالقدرة على تجاوز القوانين والقواعد التي تحكم الآخرين. ويؤدي ذلك إلى فقدان الشعور بالمسؤولية وإلى ظهور النزعات الأنانية والعبودية للغرائز.
"السلطة المطلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية" تجسد هذه الفكرة بشكل عميق، حيث تُشير إلى كيفية قدرة السلطة على تحفيز جوانب سلبية وخبيثة في الإنسان.
1. الجذور النفسية للسلطة
في البداية، يجب أن نفهم كيف تتشكل طبيعة الإنسان تحت تأثير السلطة. تتداخل جوانب النفس البشرية من طموح، وطمع، وحب السيطرة بشكل معقد. وعندما يُمنح الفرد سلطة مطلقة، تتغلب هذه الجوانب غالبًا على القيم الأخلاقية السائدة، مما يؤدي إلى التصرف بطرق غير إنسانية.
2. غياب المساءلة
واحدة من أبرز المخاطر المرتبطة بالسلطة المطلقة هي غياب المساءلة. دولتان أو حكومة تمتلك سلطة بلا حدود قد تُظهر سلوكيات استبدادية وقمعية. يختفي الخوف من العقاب، مما يشجع على اتخاذ قرارات قائمة على الذاتية والمصالح الشخصية. التاريخ مليء بالأمثلة عن الحكام المستبدين الذين استخدموا سلطتهم لقمع المعارضين وارتكاب الفظائع بحق شعوبهم.
3. الفساد والاستبداد
عند تحليل العلاقة بين السلطة المطلقة والفساد، نجد أن الأول يُعزز من الثاني. الفساد ليس فقط ظاهرة سياسية بل هو سلوك ينشأ من الشعور بعدم القدرة على السيطرة أو المحاسبة، مما يُتيح للأفراد تبرير تصرفاتهم غير الأخلاقية. سلطات مطلقة تُظهر كيف يتفاقم الفساد عندما يُسمح للأفراد بالتجاوز.
4. دراسات وتجارب
هناك العديد من الدراسات النفسية التي تدعم فرضية أن السلطة تُخرج الأسوأ من النفوس. تجربة "ستانفورد" الشهيرة التي أجراها العالم النفسي فيليب زيمباردو على مجموعة من الطلاب تُظهر كيف يمكن للسلطة أن تؤدي إلى سلوك منحرف. داخل هذا التجربة، أصبح الطلاب الذين أُعطوا دور حراس سجون معتمدين على القوة يعاملون زملاءهم بأساليب قاسية وغير إنسانية، مما يؤكد فكرة أن السلطة تغير سلوك الأفراد بطرق خطيرة.
تجربة سجن_ستانفورد من أغرب التجارب في التاريخ !
في دراسة أثارت جدلاً واسعاً، قام عالم النفس الأمريكي الكبير "فيليب زيمباردو" بتجربة شهيرة سميت "سجن جامعة ستانفورد".
قام الرجل بتقسيم مجموعة من الطلبة لمجموعتين، مجموعة لعبت دور مساجين و الأخرى سجّانين، في سرداب جامعة ستانفورد الذي تم تقسيمه ليبدو كسجن.
قام الرجل بإحكام الحبكة لدرجة أخذ الطلبة "المساجين" من بيوتهم مقيّدين بالأصفاد، على يد الطلاب الذين لعبوا دور السجانين و قد إرتدوا زي ضباط شرطة.
كانت القاعدة الوحيدة في اللعبة هي: لا قواعد.. على السجانين إتخاذ كل التدابير اللازمة كما يحلو لهم ، دون أي مساءلة من أي نوع.
وكانت النتيجة كارثية أثارت جدلاً أخلاقياً واسعاً في الأوساط العلمية.. راقب الرجل في قلق التحول المرعب الذي حدث للسجانين الذين يشعرون ألا مساءلة لهم مهما فعلوا..
فقد فوجئ و هو يراقبهم عبر شاشات المراقبة، كيف أصبحوا يتعاملون بخشونة و عنف لدرجة تعذيب زملائهم، رغم أنهم عرفوا بتهذيبهم و هدوئهم و تفوقهم الدراسي الذي جعلهم يلتحقون بهذه الجامعة العريقة..
أوقف الرجل التجربة فوراً..
وقد استنتج شيئاً أصبح موجوداً في كل مراجع علم النفس الإجتماعي الآن..
و هو أن "السلطة المطلقة تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية.''
5. أهمية القيود والنظم
تُظهر المقولة كذلك أهمية وجود قيود ونظم تحكم السلطة. عندما يكون هناك نظام قانوني فعال وآليات للمساءلة، يمكن أن تُوازن السلطة وتمتنع عن الخروج عن المسار الأخلاقي. يتجلى ذلك بشكل واضح في النظم الديمقراطية التي تسعى لتحقيق التوازن بين القوى وتوفير العدالة
، يجب التأكيد على أن السلطة، دون حدود أو رقابة، تُعتبر سلاحًا ذا حدين. قد تُستخدم في تحقيق الخير والبناء أو في تدمير الأرواح واستغلال النفوس. لذا، فإن الوعي بكيفية تأثير السلطة على النفس البشرية يُعد أمرًا حيويًا، ويجب أن نعمل جميعًا على تعزيز الأنظمة التي تحتفظ بالمساءلة وتضمن عدم إساءة استخدام السلطة. من خلال ذلك يمكننا حماية القيم الإنسانية الأساسية وتعزيز المجتمع الذي يعبر عن أفضل ما في النفس البشرية.
تاريخيًا، يمكننا رؤية أمثلة عديدة على ذلك؛ من الحكام المستبدين الذين مارسوا القهر والظلم، إلى المشاهد الدموية للحروب الأهلية التي نتجت عن صراع السلطة. غالبًا ما يؤدي فقدان نافذة النقد والمحاسبة إلى نمو الفساد، واستغلال المناصب لأغراض شخصية، مما يؤثر سلبًا على المجتمع ككل.
علم النفس أيضًا يفسر هذا السلوك، حيث يوضح مفهوم "السلطة تجعل الشخص ينسى إنسانيته". فالتحكم المطلق لا يُظهر فقط جانباً مظلماً في النفس البشرية، بل أيضًا يُعزز من الشعور بالعزلة والفصل عن الواقع، مما يجعل الشخص أكثر عرضة للقرارات المتعصبة وغير المنطقية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التأثيرات الاجتماعية تعمل على تعزيز المساءلة. فكلما تم تحديد القوة، كلما بُذلت جهود للحد من تجاوزات السلطة. الديمقراطيات التي تتمتع بنظام فعال للفصل بين السلطات تُظهر أن تقييد السلطة يساعد في حماية القيم الإنسانية ومنع انزلاق الأفراد إلى دائرة الفساد.
في الختام، يمكن القول إنه من الضروري إدراك أن السلطة، إذا لم تكن مصحوبة بمسؤولية ومحاسبة، يمكن أن تخرج أسوأ ما في النفس البشرية. يتطلب بناء مجتمع يتسم بالعدالة والشفافية ضرورة وجود نظم وطرائق لتحقيق التوازن بين القوة والمسؤولية. فالعبرة ليست فقط في القوة، بل في كيفية استخدامها وتوجيهها نحو خدمة الإنسانية، وليس إساءة استخدامها.