صيصان.. بين مطرقة الجهل.. وسندان التربة
محمود الدباس - أبو الليث..
يحكى أن ثلاثة أصدقاء اجتمعوا ذات يوم لبحث فكرة مشروع يغير حياتهم.. فاختاروا إنشاء مزرعة دواجن.. جمعوا ما لديهم من أموال وجلسوا يناقشون كيفية البدء.. وفي أثناء ذلك.. مر بهم رجل يبدو عليه شيء من الحكمة.. فسألهم عن سبب اجتماعهم.. فأجاب أحدهم.. ننوي إنشاء مزرعة دواجن.. فقال لهم.. وهل لديكم دراية.. أو خبرة في هذا المجال؟!.. أجابوا.. لا.. ولكننا سمعنا بمَزارع للدواجن.. وسنجرب.. فقال.. أنصحكم أن يذهب أحدكم للدراسة في الخارج.. ليتعلم أسرار المهنة.. وتركهم وانصرف..
اقتنع الأصدقاء بالفكرة.. وقرروا إرسال "النابغة المزعوم.. أبو العرّيف".. لتعلم ما يصفه الغرب بـ"صناعة الدواجن".. وسافر..
لكن الاثنين المتبقيين.. لم يحتمل أحدهما الانتظار فقال.. لا يمكننا أن نظل مكتوفي الأيدي.. لنبدأ بالأساس.. نشتري الأرض ونجهزها.. وفعلاً اشتريا قطعة أرض.. وشرعا بحراثتها.. وبعدها اقترح الآخر أن يبدآ فوراً بزراعة الدواجن لتوفير الوقت.. فوافق صديقه.. وبدأت المغامرة الكبرى..
اشتريا مئات من الصيصان.. غرس الصديقان رؤوس الصيصان في الأرض كأنها بذور.. وسقياها كل صباح ومساء.. منتظرين "نبتة الدواجن العجيبة".. لكن بعد أيام.. وجدوا أن الصيصان قد ماتت وتعفنت.. جلسا يتباحثان أسباب الفشل.. واستنتجا أن الصيصان قد اختنقت.. لأنها زُرعت من الرأس.. فقررا إعادة المحاولة بزراعتها من الأرجل هذه المرة.. وفعلاً كررا التجربة.. وسقيا الأرض بحماسة لا نظير لها.. لكن النتيجة لم تختلف.. ماتت الصيصان مجدداً..
حينها.. قررا الاتصال بصديقهما الذي ذهب "للتنوير" في الخارج.. أخبراه بكل التفاصيل.. كيف زرعا الصيصان من الرأس.. ثم الأرجل.. وكيف فشلت محاولاتهما.. ففكر ملياً.. وبعد لحظات صمت غشيت ثلاثتهم.. قال لهما.. لن ألومكما على اجتهادكما.. لكن المشكلة واضحة.. فبما أن زراعة الصيصان لم تنجح.. لا من الأرجل.. ولا من الرؤوس.. فمن المؤكد أن العيب في التربة.. وهي غير صالحة لزراعة الدواجن..
تبدو القصة في ظاهرها طريفة.. لكنها تكشف عمق الخلل.. فالصديق الذي سافر للدراسة.. عاد أشد فشلاً من صديقَيه.. كيف لمن تلقى العلم في الخارج.. أن يقر طريقة "زراعة" الدواجن؟!.. وكيف له أن يلوم التربة.. بينما المشكلة في أساس الفهم؟!.. هذا "النابغة المزعوم" الذي كان يُفترض أن يكون مشعلاً للفكر النيّر.. أصبح نموذجاً آخر للجهل المُصَفّح بالشهادات..
وهنا تتجلى العبرة.. ففي كثير من المؤسسات والمجتمعات.. نجد أمثال هؤلاء.. لا الذين غادروا الوطن وعادوا.. جلبوا علماً يرفع من سوية الأوطان.. ولا من بقوا في الداخل.. استطاعوا تحقيق إنجاز يُذكر.. بل إن الطامة الكبرى تكمن في تكتلهم ككيان متماسك.. يرفضون أن يخترق صفوفهم من يحمل مشعل الفكر النيّر.. والقدرة الخلاقة.. والنتيجة الحتمية.. استمرار دوامة العدمية بلا نهاية..
إن الفشل ليس في الأرض.. ولا في الأدوات.. بل في العقول التي تملك زمام الأمور.. فحين يتحكم أمثال هؤلاء في مصير المجتمعات.. يصبح النجاح ضرباً من المستحيل.. لأن الفاشل بطبعه لا يحتمل أن يرى من هو أقدر منه.. وهكذا يظل الفشل متربعاً على عرش الواقع.. يجثم فوق الأنفاس.. ويخنق كل أمل بالتغيير..