ما بين إسطوانةٍ بلا صَمَّام.. وقردٍ بلا خوف.. هل لنا عبرة؟!..

  محمود الدباس 

يَحكِي المثل الشعبي.. عن القرد الذي قيل له "بدنا نسخطك".. فردّ بسخرية تحمل عمق المعاناة قائِلاً "وهل هناك أسوأ مما أنا عليه؟!".. هذه الكلمات البسيطة.. والتي تُظهر الاستسلام الظاهري.. تحمل بين طياتها حكمة مريرة.. فحين يصل الإنسان.. أو الكائن الحي.. إلى قاع المعاناة.. يصبح لا شيء لديه ليخسره.. فَيَسخر حتى من المصائب التي كانت تخيفه يوماً ما..

ولنا في اسطوانة الغاز عبرة.. تلك الأداة التي تحوي غازاً مضغوطاً مُهيأً للاشتعال.. تم تصميمها بذكاء.. كي تتشقق بانتظام.. إذا زاد الضغط داخلها.. ليتم تفادي انفجارها بشكل عشوائي ومُدمر.. إذ إن الانفجار العشوائي.. يحمل معه الكوارث التي لا تُبقي ولا تذر.. أليست هذه الإسطوانة.. شبيهة بما يحدث للشعوب التي تُرهق بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟!..

الشعوب تُشبه هذه الاسطوانة.. تتحمل الضغوط.. وتصبر على الشدائد.. لكن لكل شيء حدود.. وكل إنسان.. أو مجتمع له نقطة انهيار.. حين يصبح الصبر حملاً ثقيلاً لا يُحتمل.. وحين تتجاوز الضغوط ذلك الحد.. تكون النتيجة عاصفة لا يمكن التنبؤ بمداها.. أو حجم دمارها.. فما الذي يمكن أن يحدث حين يفقد الناس الأمل.. أو الإيمان بإمكانية تحسين أحوالهم؟!.. لن يعود لديهم ما يخافون عليه.. فيثورون باندفاع غير منظم.. يجعل الجميع يدفع الثمن.. الجاني والضحية على حد سواء..

ولنا أمثلة كثيرة عن انفجار الشعوب حين يُدفَع بها إلى حافة اليأس.. ولعلّ أحدثها ما شهدناه في غزة المحاصرة.. حيث انفجر أهلها رغم سنوات الحصار والتجويع.. ليس لأنهم أقوى من العدو.. بل لأنهم فقدوا ما يخشون خسارته.. وكذلك سوريا.. التي بدأت بثورة شعبية.. تُطالب بالكرامة والعدالة.. لٍتُحَوِلها الضغوط والقمع.. إلى كارثة إنسانية هزّت العالم.. هذه الأمثلة ليست ببعيدة عن أذهاننا.. فهل من معتبر؟!..

على الحكومات أن تتعلم من إسطوانة الغاز.. أن تُدرك أن الضغط المفرط بلا مخرج.. هو كارثة تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر.. فلا يكفي أن تُدير الشعوب بقرارات قاسية.. دون أن تترك مساحة للتنفيس.. وعليها أن تتذكر دائماً.. أن الشرارة التي تُشعل الثورة.. قد تأتي من أبسط المواقف.. وأقلها أهمية في نظرها.. فالجائع لا ينتظر قراراً سياسياً ليغضب.. والمظلوم لا يحتاج إلى من يُرشده إلى طريق الانتقام.. إنها الطبيعة البشرية حين تصل إلى حافة الانفجار..

أما الدول الكبرى.. التي ترى في الشعوب الضعيفة مجرد أدوات للسيطرة والنفوذ.. فعليها أن تُدرك أن الصبر له حدود.. وأن الضغط المستمر.. يُحول الدول الصغيرة إلى قنابل موقوتة.. قد تنفجر يوماً ما.. وتُغير موازين القوى.. ولنا في التاريخ شواهد لا تُحصى.. فالثورات التي غيّرت معالم العالم.. لم تكن نتيجةُ خططٍ مُحكمة.. بل كانت انفجاراً للغضب المكبوت..

القرد الذي سُئِل بسخرية عن "تسخيطه".. فرد متسائلاً "وهل هناك أسوأ مما أنا عليه؟!".. يُجسِد تماماً حال الشعوب التي إذا وصلت إلى القاع.. لم يعد يخيفها شيء.. بل ربما تُصبح سخريتها.. هي أولى إشارات الانفجار.. فهي تعلم أن الأسوأ قد حدث بالفعل.. وأن ما سيأتي بعده.. لن يكون أسوأ مما مضى..

فهل تُدرك الحكومات والدول الكبرى.. أن الصبر إذا فاض.. قد يُغير معادلات لم تكن بالحسبان؟!.. أم أنهم ينتظرون أن تنفجر الإسطوانة؟!..