سوريا بعد حين... المعركة بين الحروب

 

إيلي القصيفي

لم يكن أحد يتوقع أن تعود سوريا خبرا أول في نشرات الأخبار وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 سرقت الحرب في غزة، ومن ثم في لبنان، الأنظار والاهتمامات، حتى بدا أن كل ملفات المنطقة الأخرى أصبحت ثانوية بل ومنسية. لكن الأهم الآن أن الحدث السوري مرشح لأن يظل طويلا في قائمة المتابعة السياسية والإعلامية، في وقت يتراجع فيه الاهتمام بلبنان الذي يشق طريقه نحو ستاتيكو جديد بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وفي وقت يتراجع أيضا وإن بدرجة أقل الاهتمام بقطاع غزة الذي قد يشهد هو الآخر هدنة وصفقة تبادل، وإن كان مستقبل الحرب هناك لا يزال ضبابيا ومبهما.

قيل الكثير حول أن الحروب الأهلية التي اندلعت في المنطقة، وبالأخص في سوريا منذ عام 2011، كانت للإلهاء عن القضية المركزية المتمثلة في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. لكن الحدث السوري المستجد والمفاجئ مع سيطرة الفصائل المسلحة على مدينتي حلب وإدلب وحماة، أثبت أن النزاعات في دول المنطقة هي نزاعات "متأصلة" بفعل الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التاريخية في هذه الدول والتي لا تعالجها الهدن واتفاقيات وقف إطلاق النار والمصالحات ولا "تثبيت" خطوط تماس لتقسيم مناطق النفوذ المحلية والخارجية. فهناك دائما دوافع محلية لهذه الصراعات أيا يكن حجم التدخلات الإقليمية والدولية فيها وأيا تكن التوظيفات السياسية لها. ولا شك في أنه لولا هذه الدوافع لما كان من الممكن لأي دولة إقليمية أو دولية أن تقيم أجندتها الخاصة في خريطة النزاع وأن تستثمر في الأطراف المتصارعة لتحقيقها.

والحال فإنه بمقدار ما يستحيل فصل الحدث السوري الراهن عن الأحداث في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 باعتباره استكمالا لها وحلقة جديدة من حلقاتها، فإنه يستحيل أيضا مقاربة المشهد السوري الجديد على قاعدة أن ما جرى هو خرق لستاتيكو طبيعي، وكأن الأوضاع في سوريا لم تكن استثنائية حتى مع تراجع حدة المعارك وتوزع القوى المتصارعة على مناطق نفوذها، وكأن النزاع كان في طريقه إلى الحل أو أن حله ليس ضرورة ما دام يمكن التأقلم معه.

وإذا كانت عملية "طوفان الأقصى" قد أعادت التذكير بقضية الفلسطينيين بكلفة هائلة وغير متوقعة حتى من "حماس" نفسها، وبنتائج كارثية أيضا، فإن عملية "رد العدوان" التي نفذتها الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا، أعادت أيضا التذكير بالمسألة السورية وتبعاتها الكارثية على السوريين أنفسهم وعلى المنطقة ككل. وهذا ليس من دون معنى سياسي، على قاعدة أنه لا يمكن مقاربة الأحداث في المنطقة كما لو أن بعضها يلغي بعضها الآخر، وبالتالي فإنه لا يمكن لعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة أن تلغي حقيقة أن هناك أحداثا كامنة في المنطقة لا بد وأن تعاود الظهور والتطور في "اللحظة المناسبة".

وهو ما يتطلب مقاربة الملفات الملتهبة في المنطقة مقاربة شاملة بحيث لا يمكن فصل ملف عن الآخر وبحيث لا يمكن فهم ما يحصل في ساحة من ساحات الصراع من دون فهم ما يجري في الساحات الأخرى. ولعل هذا الترابط المتين بين أحداث المنطقة يؤكد أن الصراع الدولي والإقليمي فيها يتعامل مع ساحاتها باعتبارها ساحة واحدة، أي إنه لا فرق هنا بين الساحة الفلسطينية أو الساحة السورية أو الساحة اللبنانية أو الساحة العراقية. كل الساحات مترابطة وكل الساحات تعيش صراعا أكبر وأوسع منها.

وهذا إن عنى شيئا فهو أن الحرب في قطاع غزة وفي لبنان لم تكن وحسب حربا بين إسرائيل من جهة و"حماس" و"حزب الله" من جهة ثانية. بل إن هذه الحرب كانت حربا دولية وإقليمية، بين إسرائيل وأميركا من جهة وإيران وحلفائها الدوليين، روسيا والصين، من جهة ثانية، مع التفاوت الهائل في مدى التدخل الأميركي لدعم إسرائيل، ومدى التدخل الروسي أو الصيني الذي يكاد يكون معدوما في دعم إيران، لكن من الناحية الجيوسياسية لا يمكن تصوير الصراع إلا على هذا النحو بغض النظر عن حجم الدعم الذي تقدمه أي دولة كبرى لحليفتها الإقليمية، إذ يصعب عزل الصراع الإقليمي عما يجري من حروب باردة على الساحة الدولية بين اللاعبين الكبار، وانعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا على مسارات الحرب السورية أبلغ دليل عل ذلك.

وبالتالي فإن الفلسطينيين الذين دفعوا ثمنا هائلا وقد لا يعوض جراء حرب إسرائيل ضدهم بعد السابع من أكتوبر 2023، ينبغي أن يكونوا معنيين بعد هذه التجربة بأن يقيموا نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيل من منظار موازين القوى الإقليمية والدولية ومن ضرورة فصل نضالهم عن الأجندات الدولية والإقليمية خصوصا بعد تجربة "حماس" مع إيران خلال الحرب الأخيرة، إذ تبين بما لا يقبل الشك أن تعرض الفلسطينيين للوحشية الإسرائيلية غير المسبوقة لم يدفع طهران إلى بذل أي جهد للدفاع عنهم يمكنه أن يعرضها لمخاطر لا تريد تحملها نيابة عن أحد. كذلك فإن "حزب الله" الذي أضعفته الحرب الأخيرة بعدما كان قد تسلق سلم القوة تدريجيا بعد حرب عام 2006 وتحول إلى قوة إقليمية، خصوصا بعد مشاركته في الحرب السورية، أصبح مضطرا لإعادة صياغة أدبياته في ما يتعلق بـ"وحدة الساحات" وتخطيط "محور الممانعة والمقاومة" لإزالة إسرائيل بقيادة إيران.

وبالعودة إلى المشهد السوري المشتعل والذي لا يتوقع أن ينطفئ اشتعاله قريبا، فإن ما جرى ويجري في توقيته وتفاصيله يضعف نظرية إيران وحلفائها عن أن كل ما يحصل في سوريا منذ عام 2011 هو للإلهاء عن القضية الفلسطينية ولإشغال "محور المقاومة" بعيدا عن سعيه لتحرير فلسطين. فتوقيت انطلاق "ردع العدوان" لا يخدم هذه النظرية إطلاقا إذ إنه أتى في أعقاب الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة وضد لبنان أو في نهاياتها ولم يأت في بداياتها أو خلالها، لكن أيضا فإن واقع الحال يؤكد أن هجوم الفصائل السورية في شمال غربي سوريا والمتمدد جنوبا، جاء في لحظة بلغ فيها ضعف إيران وحلفائها أقصاه بعد الحرب الأخيرة. وهذا الأمر يحيلنا مرة جديدة إلى طبيعة الصراع في المنطقة بما هو صراع على النفوذ الإقليمي والدولي بما يتجاوز القضية الفلسطينية لا بل ويجعل الفلسطينيين، بوصفهم الحلقة الأضعف، يدفعون أكلافه الأعلى.

ولذلك فإن الحدث السوري في مجرياته الحالية وفي مآلاته المنتظرة يأتي كترجمة للمتغيرات التي أحدثتها الحرب الأخيرة في موازين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة. بمعنى أن هذه المتغيرات تلقى ترجماتها الأولية في الخريطة السورية في عودة غير متوقعة بالصراع الإقليمي إلى أكثر ساحاته احتداما، ولكن هذه المرة مع تحولات كبرى يمكن معاينتها بوضوح من خلال مواقف وحركة كل القوى المشاركة في الصراع، وبالأخص روسيا وإيران اللتين أنقذتا حكم الرئيس بشار الأسد من السقوط عام 2015 بينما تبدوان الآن غير قادرتين أو غير مستعدتين لمؤازرته بما يمكنه من صد هجوم الفصائل المسلحة المتقدم جنوبا.

لكن في الوقت نفسه فإن النجاح المستمر لهجوم هذه الفصائل لا يعني أنها ستكون قادرة على الاستمرار في التقدم وكسر "الخطوط الحمراء"، حتى لو كان دعم موسكو وطهران للجيش السوري بطيئا وغير كاف كما يبدو جليا. فهذه الفصائل وبالرغم من تفوقها العسكري حتى الآن، وسعي دول إقليمية ودولية إما لدفعها إلى الأمام وإما للاستثمار في نجاحاتها الآنية، فهي لن تكون قادرة على قلب المشهد السوري رأسا على عقب. فهي وإن كانت مستفيدة من المتغيرات الحاصلة في المنطقة فإنها لن تستطيع أن تحظى بـ"شرعية" دولية وإقليمية لـ"حكمها"، حتى لو أعطت إشارات إلى استعدادها لإجراء تحولات في بنيتها الأيديولوجية وخطابها ولو خاطبت السفارات بمفردات الدولة والحكم المدني. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن إسرائيل نفسها التي تخوض حربا مفتوحة ضد محور إيران في المنطقة والذي تشكل حكومة دمشق، إلى هذا الحد أو ذاك، جزءا محوريا فيه، أعربت عن خشيتها من الفوضى في سوريا في حال سقطت حكومة الأسد تحت وقع هجوم الفصائل المتواصل، وهي لا تزال تفضل التعامل مع "الشيطان الذي تعرفه".

وهذه إشارة كافية لإدراك أن إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد"، لا تحتمل المخاطرة مع لاعبين جدد لا يمكن التنبؤ بسلوكهم ولا يمكن إلزامهم بالتفاهمات الجديدة، لكن في مطلق الأحوال فإنه يصعب الاعتقاد بأنه من السهل التحكم في الحدث السوري عن بعد وكأن ما بدأ يمكن إيقافه في لحظة وبكبسة زر. ولذلك فإن المشهد السوري يتراوح بين حدين رئيسين، فمن جهة لا يمكن توقع تطبيع عربي ودولي مع تقدم الفصائل المسلحة وحكمها في ظل الانهيار السريع

للجيش السوري، ومن جهة ثانية فإن هذه الفصائل فرضت أمرا واقعا على الأرض لا يمكن تجاوزه أو محاولة الالتفاف عليه وكأنه فصل عادي من فصول الحرب السورية الطويلة.

هذا كله يزيد من تعقيدات الحدث السوري ومن صعوبة توقع تطوراته ومآلاته، لكن السيناريو الأكثر ترجيحا أن يتوقف تقدم الفصائل المسلحة عند حدود معينة، يتم بعدها التوصل إلى وقف لإطلاق النار بعد أن تكون الحكومة السورية قد خسرت مزيدا من الأراضي وضعفت أكثر. خصوصا أن قيام الجيش السوري بهجوم مضاد بمؤازرة روسية وإيرانية لا تتوفر له حظوظ كبيرة، في ظل انشغال روسيا في أوكرانيا وحساباتها المعقدة مع إسرائيل ومع أميركا ولاسيما بعد انتخاب دونالد ترمب. كذلك فإن إيران لا يمكنها أن تعيد إرسال مقاتلين إلى سوريا مثلما فعلت في بدايات الحرب، خصوصا أن الحكومة العراقية حذرة في التعامل مع الأحداث وهي نشرت الجيش على الحدود مع سوريا، ما يعني أنها لن تكون متعاونة في إدخال المقاتلين إليها خشية الضغوط الأميركية عليها.

كذلك فإن الحرب الأخيرة أطلقت يد إسرائيل أكثر في استهداف قوافل الأسلحة والمقاتلين، وهو ما يزيد من صعوبة نقل العتاد والعناصر من قبل إيران. هذا فضلا عن أن الحكومة السورية التي حاولت خلال الحرب الأخيرة التمايز عن موقف "محور المقاومة" والاستثمار في القنوات العربية الجديدة، لن تستطيع العودة خطوات إلى الوراء ووضع كل أوراقها في سلة طهران، لاسيما أنها تدرك محدودية الدعم الإيراني هذه المرة، وهو ما أثبتته الأحداث حتى الآن. أما بالنسبة لتركيا فمن غير المتوقع أن تذهب في دعمها للفصائل المسلحة حتى النهاية وأيا تكن النتائج، فهي أيضا تتطلع إلى أهداف محددة من هذه الجولة الاستثنائية من الحرب السورية، وربما بدأت منذ الآن بقطف ثمارها واقتربت من الاكتفاء. وهو ما تدل عليه دعوة الرئيس أردوغان للأسد لإيجاد حل عاجل للأزمة السورية. ومن الممكن أن يتفق ثلاثي آستانية، تركيا وإيران وروسيا، خلال اجتماعه السبت في الدوحة على ترسيم  حدود الصراع المستجد ومناطق النفوذ الجديدة. أما واشنطن فتطلع إلى انتهاء هذه الجولة لصالح استراتيجيتها في إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا وإبعاد الأسد عن طهران، كما صرح مسؤول أميركي. لكن لا شك في أنّ الحسابات الأميركية قد تكون معقدة أكثر في لحظة الانتقال بين ولايتين وبين استراتيجيتين.

وفي المحصلة فإن المشهد السوري بعد التطورات الأخيرة لن يعود كما كان قبلها، فقد أصبحت هناك خطوط تماس جديدة وخرائط نفوذ جديدة، وربما تسويات جديدة قد لا تنهي النزاع لكنها تجمده مرة أخرى ولصالح الفصائل المناوئة للحكومة السورية هذه المرة وفي غير مصلحة كل من روسيا وإيران... بانتظار معركة أخرى بين الحروب!