حلب تعكس عمق مأزق إيران والحزب… والنّظام السّوريّ
خيرالله خيرالله
يرفض الحزب أخذ العلم بما حلّ به وبلبنان. يصرّ على أنّه حقّق انتصاراً على إسرائيل متجاهلاً كلّ ما له علاقة بالواقع. يشير هذا التجاهل للواقع إلى مدى عمق المأزق الذي يعاني منه الحزب الذي يرفض الاعتراف بهزيمته. الهزيمة ناجمة عن حسابات خاطئة ارتكبها وما زال يرتكبها منذ ما قبل بدء حرب “إسناد غزّة” في 8 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023).
في 8 أكتوبر قرّر الحزب، بناء على طلب إيراني، فتح جبهة جنوب لبنان، معتقداً أنّ لديه ما يكفي من قوّة ردع تجبر إسرائيل على التزام قواعد الاشتباك المتّفق عليها منذ صدور القرار 1701 الذي أوقف حرب صيف 2006. تبيّن مع تفرّغ إسرائيل للبنان، بعدما دمّرت غزّة وأزالتها من الوجود تقريباً، أنّ الحزب يعيش في عالم خاصّ به لا علاقة له بالعالم الحقيقي وموازين القوى السائدة فيه وفي المنطقة.
ليس الحزب وحده الذي يعيش في مأزق تعبّر عنه تصرّفات جمهوره. إنّه جمهور يحتفل بالهزيمة بإطلاق النار في الهواء… ولا يتورّع عن الاعتداء على صحافيين مثل الزميل داود رمّال في بلدته الجنوبيّة (الدوير). تعرّض الزميل لاعتداء لمجرّد سعيه إلى إدخال بعض المنطق في عقول أقلّ ما يمكن وصفها به أنّها عقول وقعت ضحية مخيّلة مريضة.
لا بشّار يعرف ولا نصر الله يعرف
يبدو مأزق الحزب انعكاساً للمأزق الإيراني، وهو المأزق الأكبر، بل المأزق الأساسي، الذي انسحب بدوره على النظام السوري الذي خرجت حلب، كلّ حلب، عن سيطرته قبل أيام قليلة نتيجة عجز بشّار الأسد عن التعاطي مع الواقع أيضاً. تبيّن أنّ بشّار الأسد يعرف عن تركيا ما كان يعرفه الأمين العام الراحل للحزب عن إسرائيل. من يتذكّر قول نصرالله بُعيد تفجير مرفأ بيروت: ” نعرف عن ميناء حيفا أكثر ممّا نعرف عن ميناء بيروت”.
يعيش بشّار الأسد بدوره في عالم خاصّ به. لا يعترف بالأسباب التي جعلته يبقى في دمشق، وهي أسباب مرتبطة برغبة روسيا وإيران. أكثر من ذلك، لم يدرك رئيس النظام السوري، في وقت يبدي العرب الواعون (مثل السعوديّة والإمارات) حرصاً على وحدة سوريا ومصيرها أكثر منه، معنى ضرورة التعاطي مع تركيا بناء على طلب وإلحاح روسيَّين. اعتقد أنّ في استطاعته تجاهل روسيا التي أنقذت نظامه أواخر شهر أيلول 2015 بناء على طلب إيراني حمله إلى موسكو الراحل قاسم سليماني (قتله الأميركيون مطلع عام 2020 بُعيد مغادرته مطار بغداد)، قائد فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني. لولا تدخّل سلاح الجوّ الروسي، انطلاقاً من قاعدة حميميم قرب اللاذقية، لكان سقط الساحل السوري مع ما يعنيه من سقوط للمعاقل العلويّة في الجبال المطلّة على الساحل.
في أساس المأزق الإيراني مغامرة خوض حروب على هامش حرب غزّة عن طريق الحزب في لبنان وميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق والحوثيين (جماعة أنصار الله) في اليمن. المفارقة أنّ هذه الحروب لم تؤدِّ الغرض المطلوب منها. كذلك لم يؤدِّ المطلوب، أقلّه إلى الآن، تظاهر بشار الأسد بالموت السياسي منذ بدء حرب غزّة في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) من العام الماضي. لم يوقف شحن الأسلحة الإيرانيّة إلى الحزب ولم يوقف تهريب السلاح إلى الأردن ولا تهريب المخدّرات إلى دول الخليج.
إيران تفشل في “فهم”اللحظة
كلّ ما فعلته “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي أرادت امتلاك ورقة توسيع حرب غزّة، ارتدّ عليها. ليس المأزق الذي وجد الحزب نفسه فيه سوى جزء من هذا الارتداد الذي يظهر أنّ حجم أصدائه سيزداد مع مرور الأيام في ضوء الرغبة الغربية، الإسرائيلية والأميركيّة أوّلاً، بالتخلّص من فكرة امتلاك “الجمهوريّة الإسلاميّة” للسلاح النووي.
يوجد انقسام عميق على صعيد المنطقة. في أساس هذا الانقسام استيعاب مدى التغيير الذي حصل نتيجة “طوفان الأقصى”. ثمّة من استوعب معنى الهجوم الذي شنّته “حماس” قبل نحو سنة وشهرين مستهدفة المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزّة وأبعاده، وثمّة من يرفض استيعاب ذلك… ويتصرّف من منطلق أنّ في استطاعته البناء على “طوفان الأقصى”.
فشلت إيران في استغلال الحدث نظراً إلى أنّها لم تستوعب معناه مثلها مثل الحزب. نراها الآن تدفع ثمن فشلها. تلقّى الحزب، الذي يمثّل جوهرة التاج لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة”، ضربة سيكون صعباً عليه الخروج منها يوماً. تردّد صدى الضربة في سوريا وحتّى في العراق الذي تعتبره إيران خطّ الدفاع الأخير عن نظامها، خصوصاً بوجود “الحشد الشعبي” وميليشياته المرتبطة بـ”الحرس الثوري” وحكومة برئاسة محمّد شياع السوداني متعاطفة مع الأجندة الإيرانية في المنطقة.
تركيا تتقدّم لحظة تراجع إيران
في ضوء ما حلّ بغزّة ولبنان، ضعفت إيران. يبدو مأزق المشروع التوسّعي الإيراني أكبر بكثير ممّا يُعتقد ويعتقده الحزب وآخرون في “محور الممانعة”، بمن في ذلك النظام السوري.
كان طبيعياً أن تستغلّ تركيا ذلك وأن تتصرّف بالطريقة التي تصرّفت بها في سوريا حيث لا يزال بشّار الأسد يمارس هواية المكابرة رافضاً الاعتراف بأنّ الخيار الوحيد المطروح أمامه في الوقت الحاضر هو خيار العودة فعلاً إلى الحضن العربي. خصوصاً في ظلّ وجود مجموعة عربيّة تدرك خطورة تقسيم سوريا وانعكاسات ذلك على أمن المنطقة كلّها.
ليس سرّاً أنّ الأسد الابن قدّم لروسيا التنازلات التي كان مطلوباً أن يقدّمها قبل ما يزيد على سنة. لذلك نشهد عودة، غير كافية، للدعم العسكري الروسي لما بقي لديه من قوّات. سيمنع الدعم الروسي مزيداً من الانهيارات، خصوصاً في وسط سوريا (حماه وحمص) وجنوبها، ولن يساعد في استعادة حلب التي صار مصيرها محسوماً.
إنّه مصير مؤسف بسبب وقوعها تحت هيمنة “هيئة تحرير الشام” الموالية لتركيا. يعكس هذا الوضع عمق مأزق إيران والحزب والنظام السوري في الوقت ذاته… كما يعكس الحاجة إلى تسوية سياسيّة تحفظ وحدة سوريا قبل أيّ شيء آخر.