التوقيت والعمالة

 

حسن البراري

في عالمٍ يعج بالصراعات، لم تعد الدول بحاجةٍ لتجنيد العملاء بالطريقة التقليدية، بدفع الأموال لشراء ولاءاتهم أو ابتزازهم. بل، أصبح تكتيكًا أدق وأكثر فاعلية، فتوجيه الجماعات والنظم السياسية نحو صراعاتٍ جانبية بعيدة عن عدو واحد تلتقي فيه المصالح لهو تكتيك أكثر دهاءً وأقل كلفة. فلا أفضل من زرع الفتن في البعد لتشتيت الأنظار عن المعركة الكبرى. هكذا تُدير الأيدي الخفية الدمى، وتُستنزف الطاقات في صراعاتٍ داخلية لا تصب في النهاية إلا في مصلحة الأعداء، بينما تبقى الأمة العربية تائهة في أروقة التفرقة والانقسام.

نجحت الأيادي الخارجية في تفتيت المنطقة وإعادة تشكيلها وفق خطوط صراع طائفية وإقليمية، مسلِّمةً مفاتيح الاستقرار للآخرين. فقد زرعت الفتن، وخلقت كيانات هشة، ليبقى التدخل الخارجي متاحا تحت غطاء حماية المصالح. فكل نزاعٍ يعمق جراحا جديدة، ويشغل الأمة عن عدوها الحقيقي.

فماذا يجري في سوريا؟

رغم إيماني بوحشية النظام السوري الذي قتل وهجر شعبة وقام بتطهير طائفي بغيض وسلم سوريا لإيران وروسيا، لا أستطيع تجاهل دور تركيا في تحريك الأزمات في وقتٍ حساس. فقد طأطأت الرأس حين أُبيدت غزة ولبنان، ولكن توقيت تدخلاتها الحالية، وسط جراح المنطقة العميقة، يثير تساؤلات حول دوافعها ويزيد من تعقيد المشهد أكثر. ففي وقتٍ لم يلتئم فيه جرحٌ بعد على ضفاف النهر، بدأت تركيا تلعب دورا سلبيا من خلال تحريك أزمة جديدة، تُغذي الفتنة وتزيد من تعقيد المشهد. متجاهلة هشاشة اللحظة، فأضافت وقودًا إلى نارٍ لم تهدأ بعد، ضاربة بعرض الحائط حاجة المنطقة للهدوء والتسوية، لا التصعيد والتشويش.

صحيح أن تراجع نفوذ إيران في المنطقة العربية أمر مرحب به، إذ ساهمت في تغذية سياسة الهوية والتفتيت، ولم يختلف ذلك عن سياسة ذات الشيطان الأكبر الذي تقول بأنها تناصبه العداء!! لكن، حتى وإن انتصرت تركيا في سوريا، فإنها تستثمر النصر فقط في سياق مصالحها الوطنية الضيقة، التي لا تتقاطع بالضرورة مع مصالحنا في لجم العدو الصهيوني ووقف النزيف الاستراتيجي التي يعاني منه المشرق العربي.

بكلمة، تظل سذاجة التفكير في الاتكاء على الآخرين في معركة البقاء السياسي والاستقرار الإقليمي أكبر فخٍ وقع فيه العرب. فظنوا أن يد الغير ستكون درعًا حصينًا، بينما كانت تلك الأيادي تزرع الخيوط الخفية التي تقيدهم في صراعات لا تنتهي. فكل تأمل في الخارج كان وهماً، وكل انتظار ليدٍ خارجية كان خيانة للذات وللتاريخ. في النهاية، يد العرب هي الوحيدة التي يمكن أن تبني الأمان، إذا ما استعادوا إرادتهم ووحدتهم بعيدًا عن تلك الأوهام.