معركة حلب... صراع إقليمي متجدد وتحذيرات من "فخ الموصل"

 

رستم محمود

فجأة، وبعد ساعات قليلة من وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان، شنت الفصائل السورية المسلحة "المعارضة"، المُسيطرة عسكريا على مناطق "شمال غربي" سوريا، هجوما مباغتا على الريف الغربي لمدينة حلب، وتمكنت خلال أقل من يومين من الوصول إلى المشارف الغربية للمدينة، واحتلت بعض أحيائها الطرفية. كما طالبت السكان بمغادرة أحياء أخرى، بعدما قطعت الطريق الدولي "M4" الواصل بين مدينتي حلب ودمشق عند بلدة "خان العسل"، الاستراتيجية، عقب سيطرتها على عشرات البلدات والقرى، مستولية على الكثير من القواعد العسكرية والمراكز الاستخبارية، التي كانت تُدار بشكل مشترك بين الجيش السوري و"الفصائل الرديفة"، الإيرانية بأغلبيتها.

الفصائل التي سمت هجومها "رد العدوان"، تألفت بالأساس من مجموع الكتائب والوحدات "الإسلامية المتطرفة" ضمن تنظيم "هيئة تحرير الشام"، التي تشكل "جبهة النصرة" عمودها الفقري، وجهة السيطرة الرئيسة فيها، ومعها عشرات الفصائل التابعة لتركيا، التي تحتل المنطقة الممتدة بين نهر الفرات وبلدة عفرين، شمال محافظة حلب. ففي الوقت الذي هاجمت فيه كتائب "هيئة تحرير الشام" الريف الغربي للمدينة، أغارت الفصائل التابعة لتركيا على بلدة مارع شمال شرقي محافظة حلب، التي كانت تحت سيطرتها حتى عام 2015.

المعلومات قالت إن الهجوم الحالي بدأ التحضير له منذ شهر سبتمبر/أيلول الفائت، وتم تأجيله بسبب الهجوم الإسرائيلي على لبنان. فحسب معلومات "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، تدخلت الاستخبارات التركية أواخر شهر سبتمبر لدى "جبهة النصرة"، وهددتها بقطع العلاقات وإغلاق الحدود حتى أمام جرحاها، فيما لو شنت الهجوم في ذلك الوقت، مفضلة ترك مساحة لتعزيز العلاقات مع النظام السوري، ومنبهة من إمكانية استغلال النظام السوري لتوقيت الهجوم، عبر ربطه بالهجوم الإسرائيلي، ما قد يجر رد فعل سوريا/إيرانيا قويا، وإقليميا/إسلاميا متعاطفا مع النظام السوري، مفضلة ترك الأمر لمرحلة ما بعد تلقي إيران وأذرعها لهزيمة عسكرية في لبنان وسوريا.

ضعف إيران
المعركة الجديدة تأتي عقب تغيرات إقليمية أصابت المنخرطين في المسألة والجغرافيا السوريتين، إسرائيل وإيران وتركيا تحديدا، وإلى حد ما العراق والأردن. فالشهور الماضية أحدثت تبدلات في مواقع وموازين القوى، تحت ضغوط أحداث غير عادية، مثل الحرب في غزة ولبنان، وصولا للهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وليس انتهاء بفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإلى جانبها وقائع سياسية مثل فشل الوساطة الروسية بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد، وعدم التزام هذا الأخير بمتطلبات المبادرة الأردنية/العربية، وإيقافه لأية وساطة دولية في الملف السوري تماما.

الانهيار السريع للدفاعات العسكرية للنظام السوري في منطقة الصراع كان مثيرا للانتباه، والذي ترافق مع انسحاب واضح لعناصر ومقاتلي "حزب الله" اللبناني من تلك المنطقة منذ عدة أشهر

المراقبون ربطوا بالأساس بين هجوم فصائل "المعارضة" السورية والمواجهة المستمرة بين إسرائيل وإيران، التي امتدت لتشمل عموم المنطقة، ويُتوقع لها أن تبقى كذلك في المدى المنظور. فخلال الساعات الأخيرة قبل بدء سريان وقف إطلاق النار في لبنان، قصفت إسرائيل كل المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، وهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس السوري شخصيا، فيما لو ساعد إيران في إعادة تسليح "حزب الله"، قائلا في خطاب متلفز: "إسرائيل قادرة على منع الأسلحة من دخول لبنان عبر سوريا وذلك من خلال قصف سوريا ومعابرها الحدودية مع لبنان، وأقول للرئيس بشار الأسد، أنت تلعب بالنار".


فالرأي الغالب يعتقد أن إسرائيل تملك "خطة" لترتيب الأوضاع في سوريا خلال المرحلة المقبلة، بطريقة تفكك فيها النفوذ والحضور العسكري الإيراني داخلها، وتخلق أداة ضغط واضحة على النظام السوري، لاستخدامها في حال عدم التزامه بفروض "فصل الجبهات" في المرحلة المُقبلة. فـ"الحياد" السوري تجاه حربي غزة ولبنان ليس كافيا بالنسبة لإسرائيل، حسب تصريحات مسؤوليها، بل على النظام السوري أن يقطع جسر التواصل بين إيران و"حزب الله" تماما، دون أية محاولة للالتفاف على ذلك.
لكن الانهيار السريع للدفاعات العسكرية للنظام السوري في منطقة الصراع كان مثيرا للانتباه، والذي ترافق مع انسحاب واضح لعناصر ومقاتلي "حزب الله" اللبناني من تلك المنطقة منذ عدة أشهر، ومثلها الكثير من الفصائل الإيرانية أو التي هي تحت رعايتها. فالمنطقة التي تجري فيها المعارك "شديدة التعقيد"، "قوميا" وطائفيا تحديدا، ومع ذلك تم اجتياحها بكل سهولة. فالأحياء الشمالية لمدينة حلب– الأشرفية والشيخ مقصود- ذات أغلبية سكانية كردية، ومُسيطر عليها من قِبل "قوات سوريا الديمقراطية"، ومثلها قوس الأرياف الشمالية، في منطقتي "تل رفعت" و"الشيخ حديد"، اللتين تسميهما الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا "إقليم الشهباء"، وهي صارت راهنا على تماس مع مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام".

ما يحدث يشبه ميدانيا ما حصل في مدينة الموصل ومحيطها في صيف عام 2014، حينما سقط قرابة ثلث مساحة العراق بيد تنظيم "داعش" الإرهابي خلال أيام قليلة، ودون مقاومة تُذكر

وفي الشمال الغربي من مدينة حلب تقع بلدتا "نُبل والزهراء" ذات "الأغلبية الشيعية"، اللتان بقيتا تحت السيطرة الإيرانية المباشرة طوال سنوات، وتعرضتا لحصار طويل خلال سنوات 2012-2017، وكانتا جزءا من "صفقة المدن الأربع" في ربيع عام 2017، والتي أخذت طابعا طائفيا واضحا وقتئذ.
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أشار إلى علاقة بلاده بهذه المواجهة بوضوح، بعدما ندد بها في تصريحات رسمية، ووصفها بأنها "خطة أميركية صهيونية بعد هزيمة النظام الصهيوني في لبنان وفلسطين"، مُعلنا في اتصال هاتفي مع نظيره السوري دعم بلاده للحكومة السورية.

“فخ الموصل”

الباحث في "مركز الشرق للدراسات" خيري درويش يشرح في حديث مع "المجلة" ما اعتبره إمكانية لأن تكون هذه الوقائع الجديدة في مدينة حلب بمثابة استعادة وظيفية لـ"فخ الموصل"، من قِبل إيران والنظام السوري، وأضاف: "ثمة ما هو غير مُصدق فيما يتعلق بمدى هشاشة دفاعات النظام السوري ومؤيديه الإيرانيين. إذ كيف لها أن تنهار بكل هذه السرعة خلال ساعات قليلة، وتخسر ما كسبته خلال معارك دامية، طالت لسنوات طويلة؟ فحتى لو كان بعض الضعف قد أصاب البنية العسكرية للفصائل الإيرانية، فإن عملية الانهيار السريعة تتجاوز ذلك بأشواط، وتثير شكوكا بشأن وجود مخطط يتجاوز بعض التغيرات في التوازن العسكري بين المتصارعين. فمدينة كبرى بحجم حلب، بتعداد ديموغرافي يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة، وثقل ثقافي واقتصادي وسياسي استثنائي، لا يمكن لها أن تسقط لمجرد اختلال عسكري ما، وهي التي بقيت عصية على عشرات الفصائل المسلحة من قبل، وطوال سنوات، حينما كان النظام السوري في أوج ضعفه الميداني، قبل التدخل الروسي عام 2015".

ويضيف: "بناء على ذلك، لا يُمكن فصل المجريات الحالية عن مشهدين رئيسين حدثا قبل أكثر من عقد، واحد أمني وآخر سياسي. فما يحدث يشبه ميدانيا ما حصل في مدينة الموصل ومحيطها في صيف عام 2014، حينما سقط قرابة ثلث مساحة العراق بيد تنظيم (داعش) الإرهابي خلال أيام قليلة، ودون مقاومة تُذكر، لكن المعلومات اللاحقة أثبتت أن الجيش العراقي تلقى أوامر عاجلة وغير مفهومة تطلب منه الانسحاب من المدينة مباشرة، تاركا وراءه أسلحة وعتادا بلغت كلفتها مليارات الدولارات، استخدمها تنظيم (داعش) خلال معاركه اللاحقة لسنوات".

ويتابع درويش: "كذلك لا يمكن فصل المشهد الحالي عن المكاسب السياسية الكبيرة، التي راكمها النظام السياسي الحاكم للعراق، ومثله إيران من عملية سقوط الموصل بيد تنظيم (داعش).

فالحدث أنهى الضغوط السياسية على النظام السياسي العراقي، عقب مرحلة الربيع العربي، وسمح له بتشييد نظام سياسي/عسكري رديف للدولة الرسمية، عبر تنظيم (الحشد الشعبي)، كما فتح مساحة تعاون واسعة بين إيران والولايات المتحدة.

لأجل كل ذلك، فإن وقائع حلب العسكرية تبدو مطابقة لما حدث في الموصل، فهي سترفع عن النظام السوري أي حرج بشأن الحل السياسي المطلوب، وستعيد حاجة القوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة لإيران في سوريا، وغالبا في كل المنطقة، بعدما بقيت تطالب بإخراج إيران منها طوال سنوات.

سيحدث ذلك غالبا، وإن على حساب تدمير مدينة كبرى مثل حلب، كما جرى في الموصل من قبل".

الموقف السياسي التركي لا يبدو واضحا، خصوصا لناحية المدى الذي يمكن لهذه المعركة أن تأخذه

وزير الخارجية العراقي السابق هوشيار زيباري، أشار إلى مخاوف بلاده من إمكانية حدوث ذلك مجددا، وتمدده إلى داخل العراق، وعبر صفحته على منصة "إكس" قال: "حركة أحرار الشام وجبهة النصرة السورية، وفصائل مسلحة ومتطرفة أخرى، متآلفة في حلب وإدلب في الشمال السوري، بدأوا هجوما مبرمجا على حلب وبلداتها. التوقيت غريب، وكانت هذه المجموعات المؤدلجة نفسها هي الحاضنة لتنظيم (داعش) الإرهابي، ومن هذه البيئة تمددت وتوسعت واحتلت الموصل والرقة، وأصبحت تهديدا وطنيا ودوليا. وعليه فإن الحكومة العراقية مطالبة باتخاذ الإجراءات الوقائية والرادعة لمنعها من الوصول إلى حدودنا وأراضينا".

ورقة ضغط تركية  

لا يُمكن فصل كل تفصيل من المعركة الحالية، عن الاستخدام السياسي لتركيا لورقة الفصائل السورية المسلحة شمال غربي البلاد، تحديدا في ملف تقاربها من رئيس النظام السوري، حيث لم يصغِ هذا الأخير لكل الدعوات التركية باللقاء والمصالحة، رابطا الأمر بانسحاب تركي من كل الأراضي السورية، أو تحديد جدول زمني لذلك على الأقل.  
فالمعركة الحالية التي وصفها بعض المراقبين بـ"تفاوض تركي بالنار"، تأتي بعد شهور من محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التقرب من نظيره السوري، وتوسيطه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأجل ذلك، دون نتيجة، فجمود الوضعين الميداني والسياسي في سوريا، لم يكن لصالح تركيا، والرئيس أردوغان تحديدا، الذي حاول بكل الطرق كسر هذه الحلقة، التي كانت تُبقي ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، وتراكم نفوذ الإدارة الذاتية "الكردية" شمال شرقي البلاد.

لم يتمكن الرئيس أردوغان من العثور على مساحة مشتركة مع نظيره السوري، حتى بعد تخليه عن أغلب شروطه السياسية والميدانية السابقة، وتعهده بالانسحاب من كل المناطق التي يحتلها جيشه، وإن بدون جدول زمني واضح. لأجل ذلك، تبدو المعركة الحالية، خصوصا فيما لو تمكن المهاجمون من السيطرة على مدينة حلب، أو الجزء الأوسع منها، أداة قوية بيد أردوغان للضغط على النظام السوري، ميدانيا وسياسيا، وطبعا يُمكن استخدامها للضغط على الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، تحديدا في منطقتي منبج والشهباء، اللتين تقعان غرب نهر الفرات، ومُسيطر عليهما من قِبل "قوات سوريا الديمقراطية".

ولا ينفصل الحضور والدور التركي في هذه المعركة، عما أشارت إليه معلومات متطابقة، بشأن انخراط أوكراني في الملف السوري، كحلقة ضمن المواجهة بين أوكرانيا وروسيا. إذ لم يكن لعشرات الضباط الأوكرانيين أن يدخلوا قبل أشهر إلى مناطق جنوب شرقي محافظة إدلب، ويدربوا عناصر "هيئة تحرير الشام" على إنتاج واستخدام الطائرات المسيرة الانتحارية، حسبما قال "المرصد السوري لحقوق الإنسان" في تقرير رسمي وقتئذ، دون موافقة سياسية واستخباراتية تركية واضحة، تلك الطائرات التي استخدمها المهاجمون في المعركة الأخيرة. وقالت بعض المصادر الخاصة لـ"المجلة" إن "الهيئة" تملك أكثر من 2500 طائرة منها، لن تستخدمها إلا مع بدء الهجوم المضاد من قِبل النظام السوري وحلفائه.
الموقف السياسي التركي لا يبدو واضحا، خصوصا لناحية المدى الذي يمكن لهذه المعركة أن تأخذه، فبعد أيام من اندلاعها، عللت الخارجية التركية أسباب حدوث المعركة في بيان رسمي بأن "الهجمات الأخيرة على إدلب بلغت مستوى يهدد روح اتفاقات آستانه، ويضر بعملها، فضلا عن تسببها في خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين". لكنها عادت وحددت المستوى الذي قد تبلغه هذه المعركة، حيث "تستهدف استرجاع منطقة خفض التصعيد السابقة"، أو التي عرفت بمنطقة "بوتين-أردوغان"، أي حدود مدينة سراقب، والطريق السريع بين دمشق وحلب، وليس داخل مدينة حلب.