بين التافهين وغزة: مؤامرة على الأمة وإغراقها في التفاهة والفساد

 ا د هاني الضمور

في مجتمعاتنا العربية، تتداخل الأزمات وتتوالى التحديات، حتى باتت القيم الحقيقية مهددة، والتعليم فاقدًا لدوره، والبذخ والتفاهة أدوات لتغييب الوعي. ومع كل ذلك، هناك خيط خفي يربط بين هذه الظواهر، مؤامرة واسعة تهدف إلى إضعاف الأمة العربية وإخضاعها، وتفكيك هويتها وحضارتها. في الوقت الذي تُنفق فيه الملايين على مظاهر الترف وتكريم التافهين، تُدفع شعوبنا نحو التفكك والضياع، فيما غزة تصرخ مطالبة بالنخوة والرجولة، ونحن غارقون في سبات عميق.

لقد أصبح تكريم التافهين أداة لتشويه القدوة في مجتمعاتنا، حيث يُبرز الإعلام شخصيات فارغة تُقدَّم على أنها نماذج للنجاح. هذا الانحدار لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من خطة لإغراق الأمة في التفاهة، حيث يُشغل الشباب بأمور سطحية، ويُبعدون عن العلم والمعرفة والإبداع. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، لكن في زمن تُهمل فيه التزكية وتُكرَّس التفاهة، يتحقق الهدف الخفي لتغييب الوعي الجماعي للأمة.

أما إفساد المناهج التعليمية، فهو جزء آخر من المؤامرة، حيث تُفرغ مناهجنا من القيم الحقيقية، وتُحوَّل إلى أدوات لخلق أجيال تفتقر إلى التفكير النقدي والقدرة على التمييز بين الحق والباطل. التعليم، الذي كان وسيلة لبناء العقول، أصبح أداة للتلقين وترويض الشعوب. يقول الله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فأين الحكمة في تعليم يُبعد الشباب عن فهم دينهم وتاريخهم؟

هذه الظواهر ليست مجرد أخطاء عابرة، بل أدوات لاستكمال مشروع خطير يُسمى “الشرق الأوسط الجديد”، هدفه إضعاف الأمة وتفتيتها. الفساد والخبث اللذان يتغلغلان في مجتمعاتنا ليسا وليدي الصدفة، بل هما وسيلتان لإبقاء الشعوب تحت السيطرة، واستغلال ثرواتها وانتهاك حرماتها. هذا المخطط يسعى لإشغال الأمة بتوافه الأمور، بينما تُنتهك مقدساتها، وتُقسم أراضيها، وتُسلب إرادتها. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾، فهؤلاء المترفون الذين نراهم اليوم هم أدوات الفساد والدمار.

وفي ظل هذا الواقع، نرى الملايين تُنفق على الحفلات والمهرجانات، بينما غزة تختنق تحت الحصار. تُدفع الأموال لاستضافة نجوم عالميين وإقامة عروض لا تتجاوز مدتها دقائق، بينما أطفال غزة يموتون جوعًا ومرضًا. قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، فهل أُنفقت هذه الأموال في سبيل الله، أم أنها أداة أخرى لإلهاء الأمة عن قضاياها المصيرية؟

إن استمرار هذه السياسات يؤدي إلى خلق جيل ضعيف الروح، فاقد الهوية، غارق في التبعية. حينما تُغيَّب القدوة، وتُدمَّر المناهج، وتُستنزف الثروات في التفاهة، تُصبح الأمة عاجزة عن النهوض أو حتى الدفاع عن نفسها. لكن الخطر الأكبر يكمن في أن هذه الأدوات ليست نهايات بحد ذاتها، بل وسائل لتمهيد الطريق أمام الاستعمار الحديث الذي يسعى للسيطرة على مقدراتنا، وانتهاك مقدساتنا دون مقاومة تُذكر.

يا عرب، يا مسلمين، استيقظوا! إن ما يحدث ليس مجرد مصادفة، بل هو مخطط لتفكيك الأمة وإذلالها. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار لقيمنا وديننا، وتصحيح مسار إعلامنا وتعليمنا، وتوجيه ثرواتنا لنصرة المظلومين ورفع راية الحق. غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي رمز لصمود الأمة وأملها. إن لم نقف معها اليوم، فغدًا سنجد أنفسنا محاصرين، عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا أو عن ديننا.

لن تعود كرامة الأمة إلا حين تصحو من غفلتها، وتدرك أن التبعية والفساد لن يجلبا إلا الهلاك. إن الله وعد بنصر من يصدق في نيته وعمله، فليكن هذا النصر هدفنا، ولتكن وحدتنا سلاحنا. أما أولئك الذين يُغرقون الأمة في الترف والتفاهة، فهم ليسوا سوى أدوات زائلة، سيحاسبهم الله على ما اقترفت أيديهم، وسيسألنا نحن عن صمتنا. ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 88-89). فلنسعَ أن نكون ممن يُسألون فيجدون الجواب.