مات "الهر"

أحمد أبو خليل


شعور خاص تملكني عند سماع الخبر.
أحسست كما لو أن شيئا ما "انشلع" من عمق الرمثا (مدينتنا). كان قطعة عزيزة من روحها وملمحًا هاما من شخصيتها، وصفحة حميمة من سيرتها بكل ما في تلك السيرة من جد ضحك وألم وسخرية وتضحية... كل ذلك معا.
و"الهر" هو يوسف الهربيد الزعبي، أخونا الكبير الذي رحل مساء أمس. لزمن طويل ربما كان الراحل هو الاسم الأبرز في التاريخ الشعبي للرمثا، فهو الشاب طالب المدرسة عام 1955 الذي ارتبط اسمه بقيادة حادثة شهيرة، شكلت حصة الرمثا من موجة الاحتجاجات الشعبية في منتصف خمسينات القرن الماضي، وقد سجلتها السيرة الشعبية تحت عناوين مختلفة خلطت الخيال بالواقع ودمجت بين الجد والتهكم وفق الطريقة التي يتقنها الرماثنة، ولكن أبرز تلك العناوين هو: "جمهورية الرمثا" و"رئيسها الهر".
كتبت سابقا الحكاية على لسانه، وتشرفت بأني تمكنت من توثيق روايته الشخصية عن تلك الأيام، وقد نشرت ذلك قبل نحو عشرين عاما. وتضمنت المادة وصفا للبيئة الاجتماعية والسياسية في الرمثا حينها وتفاصيل أخرى، وان شاء الله أتمكن قريبا من الكتابة من منظور جديد عن شخصية الرجل. 
هنا فقط بعض الكلمات حضرت اليوم في ذاكرتي:
فالمرحوم "الهر" ظل شخصا صعبا وذا مزاج خاص. لقد ترك العمل السياسي الحزبي منذ زمن طويل بعد خروجه من سجن الجفر عام 1963، ولكنه ظل مراقبا بكتمان ونظرات حادة ذكية كتومة.
احتاج إقناعه بقبول إجراء حوار معي إلى نحو ثلاث سنوات، احترمت خلالها خشيته وشكوكه في دوافعي، لم يقتنع أنني مثله غادرت العمل الحزبي، وأسعى فقط للتوثيق من باب انصافه وإنصاف الناس والمجتمع الذي جرت في الأحداث. وبعد أن رآى أنني مواظب على محاولتي ولكن مع حرصي على أن يكون مرتاحا وراضيا، وافق وفتح لي ذاكرته.
كتبت المادة بمحبة وبما أمكنني من دقة وموضوعية واستنادا إلى ما قاله شخصيا، ونشرتها في صحيفة "العرب اليوم" التي كنت أكتب فيها آنذاك، وبمجرد النشر أسرعت إليه ويدي قلبي لأعرف موقفه، ذلك لأني اعتذرت له عن الاطلاع على المادة قبل النشر كتقليد مهني.
وجدته سعيدا ومنتعشا، فقد أحيت المادة وردود الفعل حولها في الرمثا ذكرياته، وكان فرحا بما نشرته. ثم واصلت بعض اللقاءات معه.
لكن المادة أثارت ذكريات عدد من رفاق سجنه خارج الرمثا الذين انقطعوا عنه منذ 1963. وقد وزعها بكثافة المرحوم خليل قنصل، ذلك الشاعر والمهندس المختص بالفلك، والذي كان يسجل له حرصه على التواصل مع كل "جماعة الجفر"، أو "خريجي الجفر"، وكان يتواصل معهم ويحتفظ بعناوينهم وهواتفهم ويطمئن عليهم. اتصل خليل قنصل معي حينها، وبسرعة نظّم استضافة في عمان على شرف "الهر" حضرها بعض من رفاق سجنهما، ومنهم المرحومون: د. يعقوب زيادين ود. عيسى القسوس كما حضر المرحوم مسلم بسيسو، ووجهت لي دعوة مع عدد محدود من الأصدقاء من الرمثا كمستمعين. وكانت جلسة ذكريات لطيفة. ثم تركنا الهر لأيام بضيافة خليل قنصل وأصدقائه.
بعد ذلك، التقيت بشخصية ورد ذكرها في الحوار، وهو الدكتور كامل فضا (أطال الله عمره) الذي كان يعمل مدرسا في الرمثا عام 1955 وتعرف على الهر ودرّسه حينها، وقد روى لي المشهد من زاويته. (لا تستغربوا فرق العمر، فقد كان بمقدور الطالب أن يعمل مدرسا بعد انهائه الصف الخامس ثانوي (الحادي عشر). وقد زار المعلم تلميذه (رئيس الجمهورية) بعد انقطاع أكثر من 60 عاما.
حصلت فيما بعد على مواد أرشيفية أخرى، آمل أن أتمكن من الاستفادة منها في كتابة لاحقة.
لأخينا الكبير يوسف الهربيد الزعبي الرحمة، ولأبنائه وبناته وأسرته ومحبيه في الرمثا وخارجها أطيب العزاء.
ويؤسفني أنني لأسباب خاصة طارئة لا أستطيع المشاركة في العزاء.