محمد عبلة: تأويل الحلم

 محمد عبلة

نداءٌ يشدُّه نحو الفنّ والحياة منذ أن كان يُطرَد من صفّه الدراسي بسبب مشاغبته ليمضي الوقت في غرفة الرسم. هناك، سيبدأ الطفل محمد عبلة بالخربشة على الورق والتعامل مع اللون وسط إعجاب المدرّسين، وهو الذي ملأ قبل ذلك الجدران وملابسه بأشكال وشخطبات. وفي عقْد السبعينيات الذي شهد أكبر التحوّلات في تاريخ بلاده المُعاصر، تمرّد الفنان المصري (1953) على إرادة والده في الالتحاق بالكلّية الحربية، واختار الدراسة في كلّية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية؛ خيارٌ لشخص شغوف بتصوير يومياته والأحداث والشخصيات التي يعايشها من دون أن يعلم أنّ هذه التصاوير ستشدّ أنظار النقّاد والجمهور منذ معرضه الأوّل الذي أقامه في "المركز الثقافي الإسباني" بالقاهرة عام 1977.

استحوذت لحظة البدايات بكلّ ما فيها من إرباك وخيبات أمل على بال عبلة. وقد ظلّ يستذكر، في لقاءات عدّة مع جمهوره، تفاصيل تلك البدايات؛ منذ أن وصل إلى الإسكندرية، ثمّ راح يمزج بين البوح برغباته في الاستكشاف والبحث عن معنىً للفنّ والحياة، وبين اشتباكه مع السياسة والفكر والمجتمع، كما يوثّقها في كتابه "مصر يا عبلة.. سنوات التكوين"، الصادر حديثاً عن "دار الشروق".

اختبر الفنان، الذي ينتمي إلى الجيل الرابع من التشكيليّين المصريّين، تلك المرحلة الانتقالية بين صياغات رمزية بمحمولات أيديولوجية لمضامين الواقع الذي فرضته الحقبة الناصرية وبين مصر الثمانينيات التي غابت عنها الاشتراكية وصعدت تيارات متشدّدة وسط سياسات الانفتاح التي فرضت تغيّراتها الحادّة على نمط العيش والفكر معاً، وهو ما يرويه كتاب عبلة الذي درس الموديل العاري خلال سنته الثانية بكلّية الفنون الجميلة، لكنّ المساق أُلغي قبل تخرّجه استجابةً لضغوط الحركات الإسلامية.


إكراهات لم تكن عابرة في تلك الفترة؛ حيث مُنعت الفتيات الموديلات من دخول الكلّية، وخضعت فكرة التجسيد والتصوير كلّها لفتوى التحريم. كما يستعيد عبلة نقاشاً مع أحد أعضاء الجماعات الإسلامية حول مشروع تخرّجه عن عمّال المراكب الصعايدة، مبرّراً له بأنّه مضطرٌ لرسم أجساد بشرية في محاولة لتجنّب مواجهته لأسباب لم يوضّحها، إلّا أنّ خيارات عبلة ستصبح أكثر وضوحاً مع رفضه قرار التعيين مدرّساً في كلّيته بعد نيله درجة الامتياز، حيث قرّر السفر إلى المجهول حتى لا يقع في فخاخ التدجين كبقية الأكاديميّين.

لكن الأهمّ من ذلك كلّه، يرتبط بإرهاصات التجريب عبر كسر القوالب الشكلية والمضامين التي سادت خلال الستينيات، وهي مهمّة شغلت الفنان الذي لم يستطع أن يركن طوال تجربته إلى أسلوب ووسيط معيّن أو معالجة محدّدة، وظلّ مشغولاً بالتعلّم وخوض مغامرات جديدة، سواء اختار نقل مشاهد الحياة اليومية والطبيعة على نحو مباشر، أو ذهب إلى تعبيرية تُركّز على المشاعر الانفعالية لشخصياته، أو نحو تجريدية تستوعب تأمّلاته وأفكاره الفلسفية.


في معرضه الأخير "بساط الريح"، الذي احتضنه الشهر الماضي "غاليري الزمالك" في القاهرة، يخترع محمد عبلة لعبةً مبتكرة من خلال هروب طفولي من الواقع واشتراطاته القاسية؛ حيث يصعد الأطفال والعائلات على البساط المسحور وسط ألوان مبهجة مقتدّة من جنّة سماوية؛ مشهد رآه كلّه في حلمٍ وأعاد إنتاجه في اللوحة، كما يريد طفلٌ تجاوز السبعين بعام واحد.

يستحقّ عبلة المراجعات العديدة لكتابه ومشروعه الفنّي في الصحافة المصرية، ومنها المقابلة التي أجرتها صحيفة "أخبار الأدب" في عددها الذي صدر نهاية الشهر الماضي، وتضمّنت مكاشفات جريئة لفنّان لم يطلب شيئاً في حياته سوى الرسم، مثلما قال، معترفاً بأنّه يرسم عادةً بسرعة، ومشتّتاً بين أشغال عدّة، وغير معنيّ بالجودة: "لا أُتقن أعمالي ولا أتأمّلها ولا أقوم بتحسينها. بطبعي لا أحبّ الإتقان أصلاً. ونفسي إنّ الشخص اللي هيشوف اللوحة يبقى عايز يمسك الفرشة ويصلّحها".

مشاركة حقيقة مع المتلقّي لم يتكلّفها على مرّ العقود الخمسة الماضية، مثلما هي وجهات نظره تجاه قضايا الفن والسياسة والمجتمع، أو تقييماته لتجارب فنانّين آخرين، وكذلك موقفه في إعادة "وسام غوته" إلى "معهد غوته" في ألمانيا بعد بدء الحرب على غزّة، إذ يقول في المقابلة نفسها: "شعرتُ أنّ ألمانيا التي تتحدّث دائماً عن الحق، والعدل، والمساواة، هي الداعم الأوّل لهذه المجازر"، لكن ما يشغله هو سردية القضية الفلسطينية التي سيرويها المنتصر!

محمد عبلة أثّثتَ هذه الرحلة بالحلم والاختلاف فخلقت لنا البهجة والأمل.