توظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة وتطوير الموارد البشرية في المنظمات الرائدة

 

د. جهاد يونس القديمات  
 

يمكن القول بدايةً إن الذكاء الاصطناعي (AI) هو مجال من مجالات علوم الحاسوب الذي يركز على تطوير أنظمة قادرة على أداء المهام التي تتطلب ذكاء بشريًا. هذه الأنظمة تحاكي بعض جوانب التفكير البشري، مثل التعلم، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات، والتعرف على الأنماط، وفهم اللغة.

يصنف الذكاء الاصطناعي إلى أنواع متعددة، مثل الذكاء الاصطناعي الضيق الذي يتخصص في مهمة محددة، مثل السيارات ذاتية القيادة أو برامج التعرف على الصوت فقط، والذكاء الاصطناعي العام الذي يسعى إلى تطوير أنظمة قادرة على أداء أي مهمة معرفية يمكن للإنسان أداؤها، ولديها القدرة على التعلم من تجاربها. هذا النوع ما زال نظريًا إلى حد بعيد ولم يتحقق بعد. ثم هناك الذكاء الاصطناعي الفائق الذي يمثل مستوى ذكاء يتفوق على الذكاء البشري، ويمكنه تجاوز القدرات البشرية في معظم المجالات.

يتم بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي باستخدام تقنيات عديدة مثل التعلم الآلي (Machine Learning)، حيث يتم تدريب الخوارزميات على مجموعات بيانات ضخمة لتتعلم منها وتستنتج أنماطًا، وأيضًا باستخدام التعلم العميق (Deep Learning) الذي يعتمد على الشبكات العصبية الاصطناعية.

تأتي أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الإدارة إلى مساهمته في زيادة الإنتاجية العالمية للعمليات والأفراد بنسبة تصل إلى 1.2% سنويًا بحلول عام 2030، كما أشارت إليه دراسة McKinsey، أي بإضافة 13 تريليون دولار للاقتصاد العالمي، وكذلك تحسين اتخاذ القرارات. فوفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة Gartner، فإن 91% من الشركات الرائدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات واتخاذ القرارات، مما أدى إلى تحسين الكفاءة والمرونة في تلبية احتياجات العملاء.

من جانب آخر، يساهم استخدام الذكاء الاصطناعي في توفير الطاقة والمحافظة على البيئة، حيث ذكرت وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تقليل انبعاث غازات الاحتباس الحراري بنسبة تصل إلى 4% بحلول عام 2030، من خلال تحسين كفاءة استهلاك الطاقة وإدارة الموارد بشكل أفضل. إضافة إلى التأثير في القطاع الطبي، فتشير تقارير Accenture إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية يمكن أن يوفر 150 مليار دولار في تكاليف الرعاية الصحية الأمريكية بحلول عام 2026، مثل استخدامه في التشخيص المبكر للأمراض كالسرطان.

ذكرت دراسة أعدتها Markets and Markets أن سوق الذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني يتوقع أن ينمو من 10 مليارات دولار في عام 2021 إلى أكثر من 46 مليار دولار بحلول عام 2026، هذا النمو يعكس الاعتماد الكبير على الذكاء الاصطناعي في الكشف عن التهديدات السيبرانية ومنعها من اختراق الأنظمة.

أشارت دراسة PwC إلى أن الذكاء الاصطناعي سيساهم في خلق 97 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2025، خصوصًا في مجالات إدارة البيانات وتحليلها، والتكنولوجيا المتقدمة، وقد يعزز من المخاوف بشأن استبدال العمالة البشرية بالذكاء الاصطناعي.

فيما يتعلق بتوظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة وتطوير الموارد البشرية في المنظمات الرائدة، فسيقود ذلك حتمًا إلى تحسين كفاءة وظائف إدارة الموارد البشرية وتسهيل العديد من عملياتها.

في التوظيف والاستقطاب، يمكن فلترة السير الذاتية باستخدام تقنيات معالجة اللغة الطبيعية لتحليل السير الذاتية وفرزها بناءً على الكفاءات المطلوبة، كذلك تحليل المقابلات. فبعض الأنظمة تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل مقابلات الفيديو، مثل تقييم لغة الجسد، ونبرة الصوت، وتحليل الأسلوب اللغوي. وفي التنبؤ بالأداء الوظيفي، يمكن تقديم تنبؤات حول مدى نجاح المرشحين في أدوار معينة، مما يساعد على اتخاذ قرارات توظيف أكثر دقة.

في إدارة الكفاءات وتطوير الأداء، يقدم الذكاء الاصطناعي خططًا تدريبية مخصصة لكل موظف بناءً على تحليل مهاراته وتحديد الاحتياجات التدريبية، مما يعزز من نموه الوظيفي. ويمكن استخدام أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقديم تقييمات فورية للأداء الوظيفي ومقترحات لتحسين الأداء، مما يجعل عملية التطوير مستمرة، أو ما يسمى بالتغذية الراجعة. من جانب آخر، يساهم في تحليل البيانات لتحديد المواهب والموظفين الأكثر تميزًا الذين يمتلكون قدرات تؤهلهم لتولي مناصب قيادية لاحقًا.

وفي تحسين تجربة الموظفين والاحتفاظ بهم، يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مثل المساعدات الافتراضية (Chatbots) للموظفين في الإجابة على استفساراتهم اليومية المتعلقة بإدارة الموارد البشرية، كإجازات العمل، والتدريب، والسياسات الداخلية.

أما في تحليل الاتجاهات الوظيفية، عبر مراقبة بيانات الأداء والرضا الوظيفي، فيمكن تحديد الأسباب المحتملة لتسرب الموظفين، واقتراح استراتيجيات للاحتفاظ بهم. كذلك في إدارة وتخطيط المسار الوظيفي، يمكن من خلال التوجيه المهني الذكي توفير اقتراحات حول المسار الوظيفي لكل موظف بناءً على خبراته وتقييماته الحالية، إضافة إلى التعرف على الاحتياجات المستقبلية، والتخطيط للقوى العاملة من خلال التنبؤ بالوظائف التي ستكون مطلوبة في المستقبل وتحديد المهارات التي يجب تطويرها داخل المنظمة.

هناك العديد من الاستخدامات للذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد البشرية في المنظمات الرائدة، مثل تحليل وإدارة الرواتب والمكافآت، وإدارة التعويضات، وتقييم الحوافز، إضافة إلى تعزيز التنوع والشمولية، وتحليل الأداء وإعداد التقارير الذكية. والأهم من ذلك هو تحسين التواصل الداخلي والتفاعل بين الموظفين، وإدارة التغيير التنظيمي ومدى استجابة الموظفين له، من خلال مراقبة الامتثال والسلوكيات المقاومة للتغيير.

لكن التساؤل المهم هنا: ما هي تحديات توظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد البشرية؟

الإجابة تكمن في التكاليف الضخمة للاستثمار في تطوير تقنياته، خصوصًا للمنظمات الصغيرة والمتوسطة، والقدرة على المحافظة على الخصوصية والشفافية، إضافة إلى وجود مخاوف من التحيز في الخوارزميات، بسبب تعلمها من بيانات سابقة، مما يؤدي إلى تعزيز بعض الأنماط غير المرغوبة. كما أن فقدان العنصر الإنساني في إدارة الموارد البشرية قد يؤدي إلى تقليل التفاعل الإنساني، الأمر الذي يؤثر سلبًا على العلاقات داخل المنظمة، وقد يشعر الموظفون بأنهم مجرد أرقام أو بيانات، مما قد يقلل من انتمائهم للمنظمة. بمعنى آخر، يجب أن يبقى العنصر البشري محوريًا في التفاعل العاطفي واتخاذ القرارات الإنسانية، من خلال تحقيق توازن بين توظيف الذكاء الاصطناعي والتفاعل الإنساني.

من وجهة نظر أخرى، يمكن لتوظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة وتطوير الموارد البشرية تحويل هذه الدائرة إلى شريك استراتيجي يساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف الأعمال، وبالتالي يعزز من قدرات المنظمات على الاستجابة السريعة للتغيرات، والتكيف مع التحولات المستمرة في بيئة العمل الحديثة.

ولضمان نجاح عملية توظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة وتطوير الموارد البشرية، يتطلب تضافر عدة عوامل داخل المنظمات الرائدة، وأبرزها القيادة، والإدارة، والاستراتيجية، والثقافة.

على مستوى القيادة، فهي التي تمتلك الرؤية، ولديها القدرة على توجيه الأهداف والموارد على المدى الطويل لاستخدام الذكاء الاصطناعي، وهي الجهة التي تشجع على التغيير المصاحب لهذا التحول، مثل تغييرات ثقافية تقبل بالتقنيات الحديثة، وتنظيمية من تعديل عمليات وسياسات وإجراءات وقوانين لازمة للتغيير.

أما على جانب الإدارة التنفيذية للمنظمات، فيجب وضع خطط واضحة لكيفية دمج الذكاء الاصطناعي في عمليات الموارد البشرية، سواء في التوظيف، وإدارة الأداء، والتدريب، أو تحسين تجربة الموظف. كذلك يجب تخصيص الموارد المالية والبشرية اللازمة لتطوير وتنفيذ حلول الذكاء الاصطناعي، ويشمل ذلك توفير الأدوات التقنية، والكوادر المتخصصة، وتدريب الموظفين على كيفية استخدام هذه الأدوات بفعالية، إضافة إلى تحديد مؤشرات أداء رئيسية لمراقبة مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية والتفاعل مع الموظفين.

وفي جانب استراتيجية المنظمات، فلا بد من صياغة استراتيجية واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية، مع تحديد أهداف محددة مثل تحسين عمليات التوظيف، وتعزيز تجربة الموظف، أو تطوير البرامج التدريبية. كذلك يجب التنسيق بين استراتيجية الذكاء الاصطناعي والاستراتيجية الكلية، بحيث تخدم الأهداف الكبرى للمنظمة.

وأخيرا؛ الثقافة المنظمية الإيجابية ليست فقط عامل دعم فقط، بل شرط أساسي لضمان التكامل الناجح بين الذكاء الاصطناعي وإدارة وتطوير الموارد البشرية في المنظمات، فوجود ثقافة منفتحة على التغيير والابتكار، تسهل تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتوفر توفر البيئة الآمنة التي تشجع الموظفين على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعي دون خوف من الفشل.