الهيمنة المحتدمة للكارتلات: نقابات الأطباء في الأردن أنموذجًا

 

يوسف منصور

شهد عام 2024 احتدامَ الصراع الذي بدأ منذ ثلاثة أعوام بين نقابة الأطباء وشركات التأمين ووزارة الصحة في الأردن حول أجور الأطباء، وتمخّض عنه العديد من القرارات التي تعدّ تقدمًا في الصالح العام، غير أنه ثمة قرارات أخرى لم تكن في المستوى المأمول. ففي مطلع حزيران/ يونيو 2024، وافق وزير الصحة الأردني فراس الهواري بعد نقاش طويل مع نقابة الأطباء واتحاد شركات التأمين وصناديق التأمين والضمان الاجتماعي وغيرها من الجهات المعنية بالملف الصحي، على رفع أجور الأطباء بنسبة 60% على نحو تدريجي على مدار 3 سنوات وبواقع 20% في كل عام، وذلك من جراء حالة الجمود التي مرت بها الأجور الطبية خلال أكثر من 15 عامًا، بعد الزيادة المحدودة في عام 2008، التي بلغت 10%.

لكن ما لبث أن ألغى وزير الصحة تعرفة الأجور الطبية لعام 2024 المنشورة في الجريدة الرسمية في عددها رقم (5932) بتاريخ 13/6/2024، وأقرّ تطبيق لائحة الأجور الطبية لعام 2008، وصرح أن نقابة الأطباء زوّدت القائمين على الجريدة الرسمية في الأردن بنسخة مختلفة من اللائحة المتفق عليها. وبناء على هذا، خاطبت النقابة الوزارة، وطلبت عدم سحب اللائحة المنشورة والتفاوض على البنود الخلافية. وأصر الوزير على أن الوزارة لن تغامر بصحة المواطنين وسلامتهم، من أجل المال.

يثير هذا التصرف سواء من قبل نقابة الأطباء أم من الوزارة تساؤلَين؛ أولهما: هل تُعدّ أجور الأطباء متدنية في الأردن؟ فباستثناء أطباء الامتياز، راوحت أجور الأطباء الشهرية بين 2000 إلى 4800 دينار أردني (نحو 2800 إلى 6800 دولار) بحسب سنوات الخبرة؛ ما يضعهم ضمن أعلى فئات الأجور؛ إذ لا يتجاوز متوسط الدخل السنوي 5700 دينار؛ ما يعني أن الطبيب الذي لديه خبرة خمس سنوات يتقاضى في شهر واحد ما يقارب دخل مواطن في سنة كاملة.

ثانيهما: هل تعدّ زيادة الأجور التي تطلبها النقابة (60%) مناسبة لما حدث من تضخم في البلاد منذ عام 2009؛ أي بعد آخر زيادة في عام 2008؟ فلو جرى احتساب التضخم التراكمي بين عامَي 2009 و2023، فإنه لن يتجاوز 45%، لذا فإن الزيادة بنسبة 60% تعدّ مرتفعة؛ إذ يجب أن تكون أقل من ذلك، خاصة أن الاقتصاد منذ عام 2010 عانى، باستثناء سنة واحدة، من معدلات نمو حقيقي لم تتجاوز 3%.

قد يرى بعضهم أن الزيادة المقترحة ما هي إلا زيادة على الحد الأعلى للأجور التي يتقاضاها الطبيب عن كل إجراء، وهي لا تمثل بالضرورة أجورًا فعلية، وهذا غير صحيح؛ فقد أثبتت الممارسات على مدى عقود من الزمن أن الغالبية العظمى من الأطباء يتقاضون أجورًا مماثلة لهذا الحد ولا تقل عنه.

وماذا عن العبء على المواطن؟ صحيح أن 72% من الأردنيين مُؤمَّنين صحيًّا حسب الأرقام الرسمية، إلا أن رفع أجور الأطباء سيؤدي في المحصلة إلى رفع تكاليف العلاج ورفع أقساط التأمين على الأشخاص والموظفين؛ ما سيزيد النفقات على القطاعين الخاص والعام. على مدى 20 سنة الماضية، كانت الحكومة الأردنية تنفق في المتوسط ما نسبته 52% من إجمالي الإنفاق على الصحة، وفي عام 2011 بلغ الإنفاق ذروته ليصل إلى 67%. لكن أصبح، فيما بعد، إنفاق الحكومة لا يتجاوز 36%؛ أي بدلًا من أن تغطي ثلثَي الإنفاق على الصحة أصبحت تغطي الثلث تقريبًا؛ ما يعني أن ثلثَي العبء سيكون على المواطنين، أفرادًا ومؤسسات، وليس على الحكومة. وهذه مسألة مقلقة لها تداعياتها الصعبة على المواطن الأردني الذي اضطرته الظروف الاقتصادية الخانقة إلى خفض إنفاقه على الصحة سنويًا من 240 دينارًا في عام 2012 إلى 210 دنانير في عام 2022. وفي الوقت الذي نما فيه الإنفاق على الصحة عالميًا إلى ما نسبته 10% من الناتج المحلي الإجمالي، لا سيما مع زيادة نسبة المسنين في دول العالم، تراجع الإنفاق على الصحة في الأردن من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 7% مقارنة بنحو 8% في عام 2013.

وهنا لا بد من التساؤل: ألا يعدّ رفع الأجور الطبية إخلالًا صارخًا لقانون المنافسة؟ ربما كان من الأفضل الرجوع إلى المواد (3 إلى 7) من قانون المنافسة الأردني لعام 2024، الذي يمنع التواطؤ والكارتيلات، سواء أكانت الممارسة رسمية أم ضمنية. فقانون المنافسة قانون خاص، أُقرَّ بعد قانون نقابة الأطباء رقم (13/72)؛ ما يجعل مواده واجبة الأداء في كل ما يتعارض معه من قانون النقابة.

إن تطبيق قانون المنافسة في الأردن، وهو القانون الاقتصادي الأهم وخاصة في الدول النامية، يشكل القاعدة القانونية الأساس التي تحظى بأولوية تشريعية على قوانين النقابات الأخرى كالمحامين والمهندسين وأطباء الأسنان والصيادلة والجيولوجيين والممرضين والتي صدرت جميعها عام 1972؛ أي قبل صدور أول نص لقانون المنافسة عام 2022 بثلاثين عامًا. فهذه القوانين تخول النقابات تحديد الأجور لأعضائها؛ ما يضر بقواعد المنافسة التي جاءت لتحقيق الصالح العام.

كان من الأفضل أن تترك النقابة والوزارة حرية تحديد الأجور لآليات السوق بدلًا من التدخل فيه وخلق احتكارات تندرج على نقابة الأطباء وعلى نقابات أخرى. وما يندرج على الحالة الأردنية في هذا السياق، ينسحب أيضًا على العديد من الدول العربية.