الرواشدة يشهر رواية ((حكي القرايا)).. ونقاد يشيدون باستلهام التاريخ في مشروعه السردي

  إبراهيم السواعير

تحدث أدباء ونقّاد أمس في المركز الثقافي الملكي أمس عن رواية الكاتب والإعلامي رمضان الرواشدة «حكي القرايا»، مؤكدين أهمية التاريخ الأردني لاستلهامه والاشتغال عليه روائيًّا، متناولين مواضيع الاشتغال على اللغة والأسلوب والتخييل وتضمين الرواية رسائل الكاتب ومقايساته والأبعاد الوطنية والإنسانيّة التي يرمي إليها.

شارك في الندوة، التي حضرها العين محمد داوديّة، والنائب صالح العرموطي، والعين حسين الحواتمة وجمعٌ كبير من الكتاب والمثقفين والإعلاميين، كلٌّ من: الكاتبة والمؤرخة الدكتورة هند أبو الشعر، والروائي والناقد سامر المجالي، والكاتب رمضان الرواشدة، بإدارة الناقد الدكتور عماد الضمور.

القلعة الشامخة

وفي ورقتها التي حملت عنوان » بطولة القلعة في (حكي القرايا)»، تحدثت الدكتورة أبو الشعر عن تشكيل القلعة الشامخة في الأعلى، والتي ارتبطت بوعي الناس في الشوبك، رابطا تاريخيا مع أهالي قلعة الكرك، ولعبتا معا دور البطولة في العهد المملوكي، وكانت الشوبك خزانا للعقول التي تترك الشوبك إلى مركز عقل وإدارة دولة المماليك في القاهرة، وعرفت مصادر هذه المرحلة قامات من أهالي الشوبك الذين بهروا القاهرة ولمعوا في محاكمها ومدارسها ومراكزها الإدارية، هذه القلعة التي ارتبطت بالزمن الفرنجي، فقدت مركزها مع مجيء الأتراك في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي، وانكفأ الأهالي من مزارعهم المعروفة بالأشجار المتنوعة، والزراعة الشتوية والصيفية، ليلوذوا بالقلعة كلما فقدوا الأمن، وتراجعت سطوة الدولة، وكلما تسلطت عليهم القوى البدوية التي اعتادت أن تتجاوز سلطة الدولة العثمانية، وتعتدي على قافلة الحج الشامي، تقتل وتنهب، فلا حدود تمنعها، ولا قوة مباشرة للدولة العثمانية، فأصبحت القلعة هي الملاذ، وصار ( أهل القلعة ) يحتمون بها، وتحولوا إلى فلاحين ضمن إقطاعات تمنحها الدولة، فكان للقلعة الحضور الوفير في أغاني أهالي القلعة، وفي السرد الذي تتناقله الجدات والأمهات، ومن هنا نبدأ، لنقول بأن مفتاح رواية ( حكي القرايا ) لرمضان الرواشدة يبدأ من هذه القلعة الشامخة على جبال الشراة، وفي ذاكرة الأهالي.

التجربة الروائية

وقالت الدكتورة أبو الشعر إنّ لرمضان الرواشدة تجربة روائية وصحفية وإعلامية وارفة الظلال، صحيح أنه كتب القصة القصيرة، لكنه سرعان ما وجد تجربته الحياتية والسياسية تتجلى بشكل أوسع من القصة القصيرة، وصارت الرواية هي ملعبه الذي تركض فيه خيوله الروائية وتتجلى، ولا حاجة بنا لاستعراض تجربته الروائية، فرمضان معروف على الساحتين المحلية والعربية، وأعماله الروائية وضعته في موقع متقدم في زمن مبكر من تجربته، عندما فازت روايته (الحمراوي) بجائزة نجيب محفوظ في القاهرة عام 1994 م،والقاهرة كما تعلمون كانت مركز الرواية العربية النابض منذ مطلع القرن.

وتابعت أبو الشعر: ولأن معي في هذه الأمسية قامات معروفة في النقد والأدب، فسأترك للزملاء ملعبهما، وأقدم بنقاط مركزة ما أراه كدارسة للتاريخ، وكاتبة قصة قصيرة، والآن كاتبة أول رواية، في هذا النص الثري الذي قدمه رمضان الرواشدة بعنوان لافت:

أولا: ابتداء، نجح الكاتب باختيار عنوان دالّ، انتزعه من تراثنا من قلب مضافات أجدادنا الذين كانوا يقولون في الزمن العصملي: ( حكي القرايا مش مثل حكي السرايا ) وكأنه بهذا الاختيار وضع عتبة ذكية للنص، ففهم القارئ طبيعة النص الروائي الذي سيدخله فقد قاد رمضان القارئ إلى عتبة نصه بسلاسة جميلة، ووضع أمام القارئ خلاصة تجربة أجيال الأجداد تحت حكم العصملي والتي تختصر رأي الأهالي وهم في الزمن العثماني من الفلاحين بحسابات السرايا الذين يفرضون الضرائب.

ثانيا: اعتدنا على الاستهلال عند رمضان في كل رواياته السابقة، فقد كان الاستهلال هو العتبة، وكان يحسن اختيار النصوص التي يستهل بها الفصل، فهي للتوحيدي وجبران خليل جبران وغيرهما من المؤثرين، ليقودنا إلى البناء الروائي، لكنه هنا، اختار ( التنويه ) ليقول للقارئ بأنه لا يكتب رواية تاريخية، وبأنه لا يؤرخ الأحداث، ولا يتناول التاريخ بصورة متسلسلة، لكنه اعترف بان بعض الأحداث تتقاطع مع المروي الشفوي في جنوب الأردن، وبعضها يتقاطع مع بعض الوقائع التاريخية، لكنها ليست محاولة منه لإعادة كتابة التاريخ.. إنها روايته هو، تاريخه هو، مع أن رمضان ينهل من ( مخزون ذاكرته ) التي نسبها إلى أمه سكينة بنت الشيخ طالب الشخيبي، التي علمته ( السرد المبهر المغلف بالتشويق )، وأقول هنا بمحبة، من منا لم يغرف من مخزون ذاكرة الأمهات..؟ من منا لم يسترجع صوت أمه وهي تروي حكايات (عنقه بنت الريح) والغولة، ونص نصيص، وقد اعترف رمضان بإهدائه هذا النص إلى أمه سكينة بنت الشيخ طالب بأن قصصها (الغرائبية والعجيبة) هي التي حفزته على السرد، لروحها، ولروح كل أمهاتنا النور والسلام.

ثالثا: ولأني أكرمني الحظ فكتبت تاريخ هذا الوطن، فقد اختارني الصديق الروائي رمضان ليطلعني على تجربته قبل نشرها، وللحق، فقد فوجئت بالتغير المفصلي في كتابة الرواية عند رمضان الرواشدة، فمنذ الصفحة الأولى وجدت بطل الفصل الأول ( منصور الأعمى ) أمام حدث تاريخي كبير، اختار رمضان أن يكون سنة 1834 م مع قدوم جيش «إبراهيم باشا» إلى قلعة الكرك بحثا عن الثائر » قاسم الأحمد » أحد ثوار جبال نابلس والخليل والقدس، والذي لجأ إلى قلعة الكرك، فلحقه » إبراهيم باشا » بجيشه المدرب، ومدافعه التي دك فيها القلعة، وهذا حدث صحيح، ويرتبط به رفض الشيخ » إبراهيم الضمور » تسليم الدخيل قاسم الأحمد للقائد المصري، ومن المعروف في القص الشعبي أن زوجته » علياء الضمور » كانت وراء تشدد الشيخ ورفضه تسليم الدخيل، وقبول التضحية بابنيه الذين أحرقا حتى الموت، لئلا يقال بأن الشيخ إبراهيم الضمور سلم الدخيل، هنا نجح رمضان في اختيار حدث حقيقي له صداه الجمعي في الوجدان، لكن رمضان الرواشدة لم يأخذ موقع المؤرخ، وهذا ليس دوره، فقد كان يعرف دوره الإبداعي ولا يتجاوزه، صحيح أنه استند إلى الزمان بمصداقية مطلوبة فاختار سنة حضور جيش إبراهيم باشا في ملاحقته المعروفة للثائرين بجبال فلسطين، وحرص على أن يقدم أحداث أبطاله على أرضية صلبة حقيقية، ليحرك الشخصيات بطريقته الروائية التي يريد، وهذا سر تفوقه، إنه يعرف دور المكان والزمان والبناء الروائي بكل عناصره من شخصيات تصنع الأحداث، وهنا يكمن تفوق الروائي الذي يعرف أن هذا البناء هو العامود الفقري للرواية.

رابعا: أنا لست ناقدة أدبية، لذلك سأستغل الوقت لأضيء ما يعنيني هنا كدارسة للتاريخ وروائية، تعرف مقولة الرواية والتاريخ ومقدار تورط البعض في وضع الحد بخط السكين بين الرواية والرواية التاريخية، وأقول باختصار بأن الرواية نجحت في بعث شخصيات حية تختصر روح المرحلة، وهذا ما أريد التأكيد عليه، إنه تقديم » روح المرحلة » وليس تقديم تاريخ للمرحلة، لكنها رؤية خاصة بالمؤلف، الذي نجح في تقديم شخصيات «منصور الأعمى» و » فاطمة السالم»

و"سطام الكركي »، وقد أضفى على سطام الكركي حالة من الجلال والبهاء، حتى أنه أقنعنا بأن قبر سطام في ساحة من ساحات القلعة، وبأن الأهالي يغنون القصائد في الأعراس ويذكرون بطولات سطام، وكأنه بطل من أبطال اليونان، وقد أقنعنا بأن موقع مقتل » منصور الأعمى » تداوله الناس حتى أن دائرة الأراضي سمت الحوض باسم » مقتل منصور » وهو ما اعتاد الناس عليه بإطلاق اسم المقتول على المكان، بوضع الرجوم من الحجارة مكان مقتل أحدهم، مثل » رجم الشامي » مثلا، وقد جعلنا رمضان نتتبع سلالة منصور الأعمى، حيث نقلهم من مكان إلى مكان بطريقة طبيعية، لم تشعرنا بأن الراوي تدخل في حراك السكان، كان الحراك ضمن حالات مقنعة، كشفت عن تسلط بعض العشائر البدوية من خارج المنطقة، وما يجب أن أورده هنا أن كاتب هذه الرواية لم يكن عشوائيا في تصنيع الأحداث، بل إنه جعل مرجعيته قراءاته في تاريخ المرحلة، بحيث أنني وأنا أعرف تفاصيل الأحداث تشككت في معلوماتي، عندما قرأت اسم » خيرو الأرناؤوط » باعتباره مديرا للناحية، ليتبين لي فيما بعد أنه من بنات أفكار رمضان الرواشدة في لحظات التجلي..!!. تماما كما فعل مع جماعات بأسماء معيّنة، لكنه بالمقابل ترك أسماء بعض القبائل الحقيقية على حالها مثل ( بدو التوايهة )، وعندما كان رمضان الرواشدة يتكئ على الموروث والمروي في المنطقة، كان يقول ( قال الراوي ) وهي حيلة جميلة تنقلنا إلى عالم السحر الذي تلبس شخصية ( راشد ) الذي سحرته الحوريات في ليلة من ليالي الأحلام، وألقين إليه بالذهب في ليلة من ليالي السحر، اصطفينه ومنحنه الذهب وحده دون خلق الله، وكانت هذه المكافأة الجميلة من الحوريات على طيبة قلب راشد الذي كان يطعم شياهه للفقراء ولعابري السبيل، وهي بالتأكيد لفتة من طيبات رمضان الذي يحب الخير وأصحاب الخير، وأقول بأنها من المناطق الفنية الجميلة في الرواية، منحتنا فسحة واسعة من الفضاء الروائي الخارج عن صراع الخير والشر في صراع السلطة مع أهالي القلعة، سواء أكان الجيش المصري بقيادة القائد العظيم إبراهيم باشا، أو السلطة التركية التي تسببت عنجهية جنودها بثورة الأهالي عندما أصر الجنود على تسخير نساء أهالي الشوبك لسقايتهم من العين، كان ذلك عام 1905 م، في مقدمة كاشفة لانفجار ( الهية ) لاحقا في الكرك سنة 1910 م.

خامسا: هناك مفاصل حاول رمضان تناولها ضمن فصول متلاحقة قصيرة، قدم فيها فهمه لحراك السكان في منطقة الشوبك وجوارها، فأرجع بعضها لضرورات التوسع وارتباط هذا بالأمن، فخرج منصور الأعمى من القلعة مع عائلته، وبنى بيته خارج القلعة، والخروج من القلعة يعني الأمن أولا، واتساع الحاجات الاقتصادية، كما أن الجيل الثاني وهم أبناء راشد تمددوا نحو الكرك وتحديدا نحو قرية » كثربا »، ومن المفاصل هنا علاقة أهالي القرية من الفلاحين بجماعات البدو، ويبدو أن رمضان الرواشدة ميز بين علاقة البدو من الديرة، والبدو القادمين من خارج الحدود ( مع العلم بأنه لم يكن هناك حدود دولة في زمن العثمانيين ) فيكون الراوي قد طرح نماذج للعلاقات كما يفهمها، علاقات الأهالي مع السلطة ( المصرية والعثمانية ) وعلاقات الأهالي من الفلاحين مع بدو الديرة ومع بدو الخارج ممن اعتادوا الاعتداء على المنطقة مع موسم الحج، وهي حقيقة معروفة، سجلتها مصادر المرحلة، وبينت فيها عجز الدولة ودور باشا دمشق في محاولة حماية قافلة الحج الشامي بكل ما يملك من نفوذ، وواضح أن الراوي كان يؤصل للحاجة إلى دولة وطنية، وقيادة وطنية، فالحكام الغرباء رحلوا وتركوا الظلم والقهر، وأبناء النهضة العربية جاؤوا بالمواطنة التي أسستها الدولة بكيانها الوطني، حيث أنهى رمضان روايته بهذه الرؤية الجميلة لوطن تشكل مع جيش الشمال الذي انطلق من الحجاز ليصل العقبة، بقيادة فيصل بن الحسين وزيد بن الحسين، وأحرار العرب الذين ساروا معه إلى الشوبك، حيث جاءت الطائرات لتضرب الهيشة في الشوبك وتجرح القائد مولود مخلص، ومن المعروف بأن الأتراك سخروا أهالي الشوبك لقطع أشجار الهيشة وتأمين قطارات الخط الحديدي الحجازي بالحطب من أخشاب الهيشة، وهو ما ذكرته الرواية، وقد قرأت شعرا شعبيا يتداوله أهالي الشوبك يحتجون فيه على قطع أشجارهم وتسلط الأتراك.

الموروث الشعبي

وختمت الدكتورة أبو الشعر بقولها: إنّ هذا المرور العاجل يظلم العمل، الذي ازدان بموروث شعبي رائع يستوقف القارئ، وأقول بأن رمضان الرواشدة صاحب الحمراوي والمهطوان، تفوق على نفسه وتجدد، وقدم رواية حميمة من قلب المكان وفي إطار زمان متداخل، استحضر الماضي بطريقة ذكية، ومزج المكان بالزمان في حركات الشخصيات الحية التي أقنعتنا بأن ما يحدث حقيقي، حتى أنه أقنعني أحيانا بأن ما أورده حقيقة، وجعلني أتأكد من صدق الأسماء والأماكن، هذا تاريخ رمضان الرواشدة الخاص الذي استند إلى مرويات المكان، ولك أن تصدق أنني لم أترك الرواية من يدي حتى انتهيت منها بشغف حقيقي، وهذا هو المعيار الجميل لنجاحها وحميميتها، إنها رواية القرايا الذين نحس بأن أهاليها هم نحن، نحبهم، نستعيد أنفاسهم وأصواتهم، ونروي أشعارهم التي غنوا بها في الحصاد والأعراس والأحزان، إنها روحهم وروحنا المتجددة.

إشارات مهمّة

وفي تعليقه على الرواية، قدّم الروائي والناقد سامر المجالي إشارات مهمّة حول رواية «حكي القرايا»، وروايات الرواشدة الأخرى، قارئًا الخيط الدقيق بينها، ومستنتجًا أنّ رمضان الرواشدة مشروع يُقرأ كلّه للوصول إلى نتيجة أو استخلاص نقدي.

وتحدث المجالي عن بانوراما الرواية، وأسلوب الكاتب، وسماته، وحركة مجتمعه الذي يعيش فيه، وقال إننا يمكن أن نفهم رمضان من زاوية السريالية وملامحها التي تجسدت في رواية الحمراوي، كمدرسة أدبيّة، حيث ظلمت السريالية كثيرًا، بسيادة مفهوم الغموض عند الناس كمعنى لها، وقال المجالي إنّ الرواشدة لديه سؤال يتجدد دائمًا في محاولة منه عبر السريالية لأن يخاطب الحواس وما وراء الأشياء، حيث السمات التقليدية يبدو أنّها لم تشبع روح الكاتب، ومن هنا تستعصي اللغة، أمام اتساع الرؤيا وضيق اللغة.

وقال المجالي إنّ الرواشدة لجأ إلى الحلاج الصوفي وإمام العاشقين وابن عربي ورابعة، فهو كاتب مسكون بالسريالية، وله همّه الوطني والاجتماعي ولغته التي تتواءم مع الطبيعة الشغوفة لديه بالمعرفة.

وتحدث المجالي عن أسلوب الرواشدة في الانتقال من موضوع إلى آخر، كما في «الحمراوي»، وكأنّه في جلسة اعتراف أو هذيان وأحداث تتداخل وحوارات، فكأنه يخلخل الزمن، فهو كاتب عميق ومتمكن من موضوعه ويسعى لفهم الماوراء.

كما تحدث المجالي عن انتقال الرواشدة من أسلوب المتكلم إلى أسلوب الغائب، في محاسبة نفسه، في مجمل أعماله، كما في رواية «جنوبي»، واعترافه أمام القارئ بأنّ هذا قرار حكيم وذاك غير حكيم، وهكذا.

وأشار المجالي إلى نقد الرواشدة الموضوعي لما حوله في الروايات الأربعة، وقال إنّ علينا أن نفهم هويته السردية وهوية الذات وهوية الجماعة لديه، فله موقف من التاريخ الاجتماعي والديني، ورواية «حكي القرايا» قلّ فيها المنسوب الصوفي وبرز فيها مشروع رمضان الرواشدة بشكل واضح. وتحدث المجالي بحديث مفصّل عن رواية «حكي القرايا» في لغتها واستلهامها التاريخ والاشتغال عليه.

المشروع السردي

وفي مداخلاته بين المتحدثين، أكّد الناقد عماد الضمور أنّ الرواشدة جمع بين الكاتب السياسي والإعلامي والروائي، وكلّ ذلك منحه الثقة في مشروعه السردي والروائي وصولًا إلى هوية الأمّة، بعيدًا عن الغطرسة وفعل الإلغاء، فابتدأ إبداعه الأول من قلعة الشوبك ونظر إلى الوطن، وأطلّ على الأردن المكتنز بالحضارة والعمران، فعلى ذرى هذه القلعة الحصينة تشكّل وعيه القومي والإنساني والذاتي، وكذلك قلعة الكرك، وكلّ الشواهد التي أججت لديه كلّ هذا الإحساس الذي يتمخض اليوم أعمالًا روائيّةً مهمّة، مثل رواية «حكي القرايا» التي قرأت التاريخ بكلّ هذا العمق والجمال.

الوعي الأول

وحول روايته، قال الكاتب رمضان الرواشدة إنّ الحكاية تبدأ والسرد مع أولى الحروف التي يتعلّمُها الطفل في بداية حياتِه، ثمّ تتوالى القصصُ التي يسمعُها ويقرأُها؛ لتُشكّلَ في وعيه أولى بواكيرِ الإحساسِ بأنَّ ثمّةَ شيئاً يُحرّكُ سكونَ هذا العالم. ومنذُ بداياتِ التكوينِ ينقسمُ الناسُ إلى أقسامٍ مختلفةٍ، وأذواقٍ مختلفةٍ، وأنماطٍ حياتيّةٍ مختلفةٍ، وتتشعّبُ طرقُ الحياةِ ومعارجُها، وتلُفُّ بنا الدنيا إلى أن تضعَنا أمامَ أولى الحقائقِ، وهي: أنَّ العالمَ المُتخيّلَ غيرُ موجودٍ في الواقعِ بتاتاً، وأنَّ الواقعَ أكثرُ قسوةً؛ ممّا كنّا نعتقدُ ونظنّ.

من هنا تبدأُ عينُ الراوي ومِخيالُهُ في تشكيلِ العالمِ كما يراه هو، أو لنقلْ بالأصحّ، كما يتمنّى أن يراه، أو أن يُعيدَ تشكيلَه وَفْقَ رؤيتِهِ الحالمة.

وأضاف الرواشدة: لعلَّ البداياتِ التي ساهمَتْ إلى حدٍّ بعيدٍ في تشكيلِ الوعي بالسردِ وبالروايةِ عندي، كانَتْ تلكَ القصصُ التي ترويها أمّي، رحمَها اللّه، ومن بعدِها تلك الحكاياتُ الغرائبيّةُ التي كنتُ أسمعُها في زياراتي الصيفيّةِ مع والدي وأهلي إلى قريتِنا في الشوبك. وفي المِخيالِ الشعبيّ ثمّةَ قصصٌ وحكاياتٌ كثيرةٌ في حاجةٍ إلى مَنْ يتفرَّغُ إلى سماعِها وجمعِها وكتابتِها.

وقال: معَ بداياتِ تشكّلِ وعيي السياسيِّ في أواخرِ المرحلةِ الثانويّةِ، والدخولِ إلى حرمِ الجامعةِ، أدركتُ أنَّني أميلُ إلى قراءةِ القصصِ والرواياتِ، وقراءةِ التاريخ. ربّما لأنَّ ثمّةَ ارتباطاً بينَ التاريخِ والروايةِ، فحتّى السيرُ الروائيّةُ والشخصيّةُ التي يكتبُها الروائيُّ هي جزءٌ من تاريخِهِ أو تاريخِ الآخرينَ، أو التجاربِ الحياتيّةِ التي مرَّ بها وعايشَها.

نضوج الوعي

ومعَ تقدّمِ الزمنِ يصبحُ الإنسانُ أكثرَ انتقائيّةً في ما يحبُّ، سواء في القراءةِ أو في الكتابةِ أو حتّى في الأكل، ووجدتُني أغوصُ في قراءةِ تاريخِ الأردنِّ القديمِ والحديثِ بعدَ تأسيسِ الدولةِ الأردنيّةِ الحديثةِ قبلَ مئةِ عامٍ ونيف؛ لأكتشفَ كيفَ كانَتِ الحياةُ في هذا الجانبِ من العالم، وكيفَ كانَ يرانا الآخرون. فعملتُ وسعي على قراءةِ كلِّ ما أجدُهُ من مؤلّفاتٍ لمؤرّخينَ أردنيّينَ وعربٍ ومستشرقينَ ورحّالةٍ جابوا الأراضيَ الأردنيّةَ في القرنينِ التاسعَ عشرَ والعشرين.

وأضاف الرواشدة: وثمّةَ حقيقةٌ يجبُ أن نعترفَ بها جميعاً، وهي أنَّ الأردنَّ موجودٌ قبلَ تأسيسِ الإمارةِ في عام 1921م، حيثُ السكّانُ والامتداداتُ العشائريّةُ والعاداتُ والتقاليدُ والمدنُ والأريافُ والبداوةُ، جميعُها كانَتْ حاضرةً بقوّة، ناهيكَ عن الممالكِ التي سادَتْ في الأردنِّ قديماً، كالمملكةِ العمونيّةِ والمؤابيّةِ والأدوميّينَ والعربِ الأنباطِ.

ولعلَّ اللافتَ في كلِّ ما وجدتُ، هو ما يسمّى «المسكوتُ عنه» في التاريخِ الأردنيِّ الحديثِ؛ وأعني الرواياتِ والمرويَّ الشعبيَّ والشفويَّ الذي لم يتمَّ تدوينُهُ أو جمعُهُ أو الاهتمامُ به، سوى صدورِ عددٍ قليلٍ من الكتبِ التي تناولَتْهُ، وربّما لا يحبُّ الكثيرونَ طرقَ هذا البابِ الذي يتعارضُ أحياناً مع ما يكتبُهُ المؤرّخونَ الرسميّونَ.

وهذا الأمرُ يتطلّبُ قراراً مؤسسيّاً وذاتيّاً من المنشغلينَ بالهمِّ والوجعِ الأردنيِّ، بجمعِ وتوثيقِ الحكاياتِ والسرديّةِ الأردنيّةِ الشعبيّةِ؛ لأنَّ فيها تأريخاً لبعضِ القضايا والأحداثِ والحكاياتِ التي لم نسمعْها أو قرأناها بصورةٍ مغايرةٍ للحقيقةِ، ممّنْ كتبوا عن تاريخِنا من المؤرّخينَ العربِ والأجانبِ.

وقال: إنّني أؤمنُ بأنَّ كلَّ إنسانٍ هو روايةٌ متكاملةٌ تحتاجُ إلى مَنْ يكتبُها، وكذلك هي المرويّاتُ الشفويّةُ التي تحتاجُ إلى مَنْ يكتبُها.

وهذه الروايةُ بالذات، (حكي القرايا)، تختلفُ كثيراً عمّا سبقَها من رواياتٍ كانَتْ حصيلةَ تجاربَ شخصيّةٍ أو حياتيّةٍ أو غيريّةٍ، وحتّى طريقةُ الكتابةِ والسردِ اختلفَتْ كثيراً.

وكاشف الرواشدة بأنه كان خائفاً وحائراً في آنٍ معاً، أن يفهمَنه القارئُ وحتّى الناقدُ، أو يُصنّفوه في خانةِ التاريخِ أو التأريخ، وهو لم يطرحْ نفسه أبداً كاتباً للتاريخِ الأردنيِّ، فهي مهمّةٌ ينشغلُ بها الأكاديميّونَ والمؤرّخونَ، لكنْ، هناكَ خيطٌ بسيطٌ، وربما واهٍ بينَ التاريخِ والسردِ الروائيِّ، وهو أمرٌ قد يَشكُلُ على كثيرٍ من الأفراد.

وقال الرواشدة: روايةُ «حكي القرايا» روايةُ تخييلٍ أدبيٍّ، استفادَتْ من بعضِ الأحداثِ التاريخيّةِ والمرويّاتِ الشفويّةِ، ووظّفَتْها بطريقةٍ روائيّةٍ بعيداً جدّاً عن فهمِها كتاريخٍ لمنطقةِ الجنوبِ الأردنيِّ في أواخرِ فترةِ الدولةِ العثمانيّةِ، إلى بدايةِ تأسيسِ الدولةِ الأردنيّةِ الحديثةِ، وربّما عندَما يُقارنُ النقّادُ والقرّاءُ بينَ التاريخِ والروايةِ، سيجدونَ أنَّ الروايةَ تتحدّثُ عن ماورائيّاتِ الأحداثِ الحقيقيّةِ، وأنَّ خيالَ الكاتبِ نسجَ منها حكايةً سرديّةً مختلفةً جدّاً.

وتابع الرواشدة: والروايةُ، عملٌ متخيَّلٌ، باستثناءِ بعضِ الأحداثِ التي جرى توظيفُها والبناءُ عليها من وقعِ الخيالِ؛ من أجلِ التشويقِ الروائيِّ، مثلِ (ثورةِ الشوبك) ضدَّ الحكومةِ التركيّةِ، التي جرى إضافةُ وقائعَ مُتخيَّلةٍ إليها؛ لتخدمَ العملَ الروائيَّ، حتّى الشخصيّاتُ التي صُوِّرَتْ في هذه الثورةِ رُسِمَتْ لتخدمَ العملَ الروائيَّ.

وقال: إنَّ الفترةَ التي تناولَتْها الروايةُ، تمتدُّ لأكثرَ من مئةِ عامٍ، لذا تحتاجُ إلى روايةٍ بحجمٍ كبيرٍ قد يتجاوزُ خمسَمئةِ صفحةٍ تقريباً، إذا كُتِبَتْ بالسردِ الروائيِّ الكلاسيكيِّ، لكنّني، وكعادتي في باقي الرواياتِ الخمسِ السابقةِ، أكتبُ لوحاتٍ في فصولٍ منفصلةٍ، تنتقلُ وتتداخلُ من حيثُ الزمانُ والمكانُ، وربّما هذا هو الأسلوبُ الذي وجدتُني أكتبُ فيه، وهو أقربُ إلى نفسي من باقي أساليبِ الكتابةِ الروائيّةِ.

وأكّد الرواشد أنّ كتابة الروايةِ – لكونها فعلاً تخييلاً–هي حفرٌ معرفيٌّ يسعى إلى التغييرِ، وربّما إلى التوازنِ مع الذات، وربّما إلى إعادةِ الانتباهِ إلى فتراتٍ زمنيّةٍ لم يُكتَبْ عنها، أو ثمّةَ «مسكوتٌ عنه». في نهايةِ الأمرِ يبقى «حكيُ القرايا» غيرَ حكي السرايا، وإن تقاطعَ معَه، أو تطابقَ الواقعُ في بعضِ الجزيئاتِ أحياناً.

وختم بقوله: في الحقيقةِ لا يمكنُ للمتخيَّلِ أن يُنقِذَنا من صلادةِ الواقعِ وتعقيداتِهِ المختلفةِ، وتغيّراتِهِ الجغرافيّةِ والديمغرافيّةِ التي حدثَتْ، وما زالَتْ، منذُ بدايةِ القرنِ العشرين، وبالتحديدِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، وما أسفرَتْ عنه من تغييراتٍ شملَتْ بلدَنا، وما زالَت تتفاعلُ إلى اليوم.