القرآن الكريم والنظريات الإنسانية: قراءة في إخفاقات الوجودية والماركسية والرأسمالية والشيوعية

 

 

أ. د. هاني الضمور

شهد العالم تطورًا فكريًا غير مسبوق خلال القرنين الماضيين، حيث ظهرت نظريات عديدة حاولت تفسير طبيعة الإنسان وتقديم حلول لقضاياه المعقدة. من بين تلك النظريات الوجودية والماركسية والرأسمالية والشيوعية، التي جاءت استجابة لتغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية، ساعيةً لفهم الإنسان وحاجاته وتنظيم حياته على أسس مادية بحتة. غير أن هذه النظريات، رغم مساهماتها الفكرية، فشلت في كثير من الأحيان في تقديم حلول متكاملة ومستدامة للقضايا الإنسانية، إذ استندت بشكل أساسي إلى رؤى تختزل الإنسان في بعده المادي، وتتجاهل الروح والقيم الأخلاقية التي تكمّل جوانب وجوده.

الوجودية، على سبيل المثال، تعزز الحرية الفردية إلى أقصى الحدود، داعية إلى تجاوز القيم التقليدية والمجتمعية، ما يجعل الإنسان ينفصل عن المسؤولية المشتركة والتكافل الاجتماعي. أما الرأسمالية، فقد ركزت على تعزيز الربحية الفردية، وتوجيه كل النشاطات الاقتصادية لخدمة المصلحة الشخصية، ما أدى إلى تفاوتات اقتصادية شاسعة وخلق نظام استغلالي يضع القيم الأخلاقية في المرتبة الثانية. وجاءت الماركسية والشيوعية كرد فعل على هذا النظام، ساعية لتحقيق مساواة كاملة بين الأفراد من خلال إلغاء الملكية الفردية، لكنها وقعت في فخ القسرية، مما أدى إلى تقييد الحرية الفردية وتفكك الأسرة والمجتمع. هذه النظريات، برغم اختلافاتها، تشترك في تجاهل جانب مهم من حياة الإنسان، ألا وهو الجانب الروحي والأخلاقي، حيث اعتمدت فقط على تلبية الحاجات المادية وتركت الإنسان في صراع دائم بين الفردية المطلقة والالتزام القسري.

في مقابل هذا الطرح، يأتي القرآن الكريم ليقدم رؤية شمولية متكاملة تحقق التوازن بين الجوانب المادية والروحية للإنسان، فهو لا يتجاهل حاجات الإنسان الدنيوية، بل يدعو إلى التمتع بالنعم الحياتية والعمل والإعمار، دون إفراط أو تفريط. يقول الله تعالى: “وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تَنسَ نصيبَكَ من الدنيا” (القصص: 77)، في إشارة واضحة للتوازن الذي يدعو له الإسلام بين الدنيا والآخرة، والعمل الصالح دون إهمال لحاجات الروح. هذا التوازن يضمن للإنسان حياة مستقرة تجعله قادرًا على تحقيق طموحاته الفردية دون أن يتعدى على حقوق الآخرين أو يسعى لتحقيق مصالحه على حساب الجماعة.

ومع أن هذه النظريات ساهمت في تطور الفكر البشري، إلا أنها أدت إلى مشكلات اجتماعية ونفسية عميقة في المجتمعات التي تبنتها، فتسببت في انقسامات طبقية وصراعات فكرية، كما عرّضت المجتمعات لنزاعات داخلية. ولعل السبب الرئيسي في فشل هذه النظريات هو غياب عنصر الأخلاق كعامل رئيسي في صياغة حلولها، فقد أدت النظريات المادية إلى فصل الإنسان عن القيم العليا التي تعزز روح العدالة والمساواة الحقيقية. القرآن، في المقابل، يعتبر الأخلاق ركيزة أساسية في أي نظام اجتماعي، ويرى أن الاستقامة الأخلاقية تعزز ترابط المجتمع وتساهم في حل الكثير من القضايا التي تعجز النظريات المادية عن معالجتها.

لقد أثبتت التجربة التاريخية أن الاعتماد على المادية وحدها في تنظيم حياة الإنسان لا يمكن أن يحقق له السعادة والراحة النفسية، حيث إن الإنسان يحتاج إلى ما هو أعمق من مجرد الاستجابة لنزعاته المادية. في نهاية المطاف، نجد أن الرؤية القرآنية تقدم حلاً شاملاً لمشكلات الإنسان، حيث تجمع بين متطلبات الحياة الدنيا واحتياجات الروح، وتدعو إلى الأخلاق كركيزة أساسية لتحقيق العدالة والتكافل بين الناس.