الصمت الجميل
ما معنى الصبر الجميل الذي تطلع إليه النبي يعقوب في مصيبته؟ كيف ومتى يكون الصبر جميلا وقبيحا؟ وهل ثمة صمت جميل أيضا؟ هناك الصمت بالطبع، وكانت رواية الصمت للروائي الياباني شوساكو أندو من أجمل الروايات في العالم، وما تزال منذ نشرها في العام 1966 تعاد طباعتها وترجمتها، وستُحول في العام القادم إلى فيلم سينمائي على يد المخرج مارتن سكور سيزي.
الصمت المشحون بالأفكار والتأمل، كما يبدو في قصة القسيس البرتغالي الشاب سباستينان رودريغز في القرن السابع عشر والذي سافر إلى اليابان ليتتبع معلمه الذي سبقه واختفى، ويقال إنه تعرض للسجن والتعذيب، بعد أن قررت السلطات اليابانية ملاحقة المسيحية في البلاد، وفي هذه الحملة فقد ارتد عن المسيحية عدد من المبشرين البرتغال وقرروا أن يعيشوا في اليابان ليعملوا في الترجمة وفي مواجهة المسيحية.
في وسط العزلة تدور أسئلة عميقة عن جدوى الفكرة التي يعتنقها الإنسان، هل تستحق هذا العناء، ويتساءل المؤلف على لسان الداعية في مغامرته لماذا الرب صامت؟ هل هو الصمت الذي يمنحك الحرية في الحياة والسلوك والاعتقاد على النحو الذي تعتقد أنه الخير؟ أم الصمت الذي تقاوم به الجهل والخواء؟ أم صمت التمرد؟ أم صمت الجهل المفضي للبحث عن الحقيقة والصواب؟ صمت المصالحة مع النفس؟ صمت السكون والانتظار؟
ما يجري اليوم حولنا يكاد يكون لا ينفع معه سوى الصمت، نحتاج إلى هذا الصمت ليس فقط للانكفاء والبحث، ولكن للاحتجاج والمواجهة والتمرد أيضا، وللسؤال الملح الدائم عما نريده لأنفسنا وما نريد أن نكون عليه.
في سلوك المجتمعات والجماعات والحكومات في بلادنا اليوم يبدو التفسير محيرا لدرجة الفوضى عما نريده ونبحث عنه، وما الصواب وما الخطأ في ذلك؟ لماذا تزداد حيرتنا وجهلنا بعد كل هذا التعليم المتقدم الذي شمل جميع فئات المواطنين؟ لماذا نوغل في الفشل وكأننا لا نعرف شيئا؟ ما جدوى المدارس والجامعات والنقابات والمهن والأعمال والدورات والبعثات التدريبية؟ ماذا نتعلم إذن؟ هل يبدو الإصلاح أمرا تافها في نظر المجتمعات مثل لوحات فنست فان جوخ الذي مات منتحرا بسبب الجوع والفقر ثم بيعت لوحاته الواحدة بأكثر من ثمانين مليون دولار؟ وأين الصواب؟ هل هو في دعاوانا المتواصلة عن الإصلاح والتنمية أم عما تنزع المجتمعات والناس إليه؟ في البحوث والقصائد والروايات والدراسات والكتب والمؤتمرات والندوات التي لا يكاد يعرف عنها أحد أم فيما تشكل به المجتمعات نفسها في الثقافة والفكر والمواقف وكأنها لا تعرف شيئا عما تقوله وتكتبه النخب؟
أخشى أن نكون متعجلين في رفض وانتقاد هذا الموقف المجتمعي وفي التعميم والاستنتاج فربما تكون المجتمعات في سلوكها الانتحاري هذا تعبر عن شوقها للمعرفة وتمردها الإيجابي باتجاهات متخلفة في السلوك والتفكير والاستهلاك.
في السنة الماضية عملت بالتدريس الجامعي محاضرا غير متفرغ، وقد استهوتني فكرة التواصل مع الأجيال والاستماع إليها، لم تكن التجربة سيئة وربما لو بقيت في الأردن لواصلت العمل في التدريس، ولكني أصبت بمزيد من الإحباط واليأس، حتى مع وجود مجموعة تستمع إليك وتعجبها أفكارك، لأن النظام التعليمي كله يقوم على الإجابة وليس على السؤال، الطلاب يريدون إجابات، والعلم يفترض ألا يقدم سوى السؤال لأنه ببساطة لا يملك إجابة، ومن يملك الحقيقة؟ بماذا ستمتحن الطلاب إذن؟ وبماذا سيجيبون على أسئلتك؟ إننا نمعن في الحيرة والفوضى والشك، والكون صامت غير حافل بحيرتنا وفقرنا، ولا نجد في لجوئنا سوى الصمت، ماذا تفعل إذن الجامعات ووزارات التخطيط والصناعة والتجارة والمساجد والجامعات؟ هل سيكون حالنا أسوأ أو أفضل لو كنا بلا جامعات ولا برلمان ولا هيئة تنشيط السياحة وتشجيع الاستثمار؟
هؤلاء الذين يملكون قدرة على النقد والمعارضة أو التأييد والإعجاب يثيرون الحسد والإعجاب، فهذه الطاقة المحركة للإنسان ليرى الخطأ ويندفع باتجاه إصلاحه، ورؤية الصواب والإنجاز والعمل على تعزيزه في هذه البيئة المحيطة بنا مما لم يعد واضحا وحاسما، الصواب والخطأ، ومن المسؤول عن الخطأ والصواب؟ إلى من نتوجه بنقدنا لغياب الحريات والديمقراطية؟ إلى المجتمعات والناخبين أم إلى الحكومات والسلطة التنفيذية أم إلى جمعيات المحميات الطبيعية؟
عندما هبطت الطائرة في مطار الدوحة أقلنا باص من الطائرة إلى صالة الاستقبال، وسار بنا مسافة طويلة جدا جعلتني استنتج أن الصالة بعيدة عن مهبط الطائرة حوالي خمسة كيلومترات تقديرا لسرعة الباص والزمن الذي استغرقه بين الطائرة والصالة، وهذا يجعلك تستنتج أفكارا وتصورات أخرى عن المطار وسعته وتنظيمه، ولكني لاحظت فيما بعد وأنا أنظر إلى المطار من شرفة عالية أن الباصات تدور حول المدرج لمسافة طويلة وأن الخط المستقيم بين الطائرة والصالة لا يتجاوز عرض المدرج فقط، كيف سأعرف أني كنت مخطئا بتقدير المسافة بين الطائرة والصالة لو لم يصدف أني نظرت إلى المطار من واجهة عمارة تطل عليه.
وفي الشقة المفروشة التي أقيم فيها وجدت الثلاجة لا تبرد جيدا، وأمضيت عدة أسابيع وأنا أتحدث وأخاطب مسؤولي الصيانة في العمارة وشركة الثلاجات، وتحولت حياتي إلى معاناة شديدة، كيف يمكن تصور الحياة في القرن الحادي والعشرين بلا ثلاجة، وعندما وصل عامل الصيانة أخيرا ونظر إلى الثلاجة، طلب مني أن أفصلها عن الطاقة الكهربائة لمدة يوم كامل ثم أعيد تشغيلها في اليوم التالي، وبالفعل عادت الثلاجة لتعمل جيدا، وبدأت أحصل على الماء والعصير البارد وأخزن الأطعمة الجاهزة التي أحضرها، كم أزمة كبرى في حياتنا ولا تحتاج سوى حل بسيط، ولكنها من دون هذا الحل البسيط جدا تحول الحياة والعلاقات وأنظمة العمل إلى كارثة ربما تؤدي إلى أسوأ النتائج.