من أجل مصر المحروسة لا من أجل غزة والعرب
كتب: د.عبدالحكيم الحسبان
مضى ما يزيد على العام على انفجار شرارة طوفان الأقصى على أرض غزة التي ولشدة تداخل جغرافيتها، وتاريخها، ونسيج سكانها، ولكنة لسانهم مع مصر المجاورة، تحسبها وكأنها أرض مصرية. من يفقه في ألف باء الجغرافيا، والتاريخ، واللغة والسياسة يدرك أن قطاع غزة لا يقع على تخوم مصر، كما يحلو لكثير من نخب مصر أن يعتقدوا، بل هو جزء من الحالة المصرية. وأما من يفقه في الف باء السياسة، وجغرافيا السياسة، وما يحضر من خرائط لمستقبل المنطقة وفي القلب منها مصر، يدرك أن غزة ليست في فلسطين بل إنها ومعها فلسطين كلها هي جزء من الارض المصرية شأنها كشأن القاهرة، والاسكندرية، وأسوان. ولأن غزة تقع في مصر، وهي جزء من الحالة المصرية، فلم تكن من باب المصادفة أن تقرر غزة أن يكون يوم طوفان حريتها واستقلالها هو السابع من اكتوبر ليكون بمثابة الجسر مع اليوم الأكثر قدسية في ضمير المصريين عندما اختاروا السادس من اكتوبر ليكون يوم طوفان غضبهم ضد الصهيونية في العام 1973.
منذ عام وأحداث طوفان الاقصى وتداعياته تتوالى فصولا. ففي السابع من اكتوبر شن المقاومون الفلسطينيون هجومهم المبارك الذي باغت الصهاينة كما باغتهم هجوم مصر وسوريا في السادس من اكتوبر عام 1973. سبق الهجوم المباغت تصريحات لأكبر رأس في أجهزة الامن الصهيونية عبر فيها عن قناعته بأن حماس مردوعة من قبل كيانه ولمدة لا تقل عن 15 عاما. وبالتزامن مع تقييمات الكيان، كان مستشار الامن القومي الاميريكي جيك سوليفان يدلي بتصريح لمجلة اتلانتيس وقبل اسبوعين فقط من يوم طوفان الاقصى يقول فيها إن الشرق الاوسط لم يسبق له أن عاش هذا المستوى من الاستقرار والهدوء، وبما يسمح للغرب أن يخفف من اهتمامه بالمنطقة، ليركز جهوده على الصين وخطرها. لقد حفر طوفان الاقصى عميقا في الشعور الجمعي الصهيوني، وفي فكرة أرض الميعاد، وفي فكرة أن الكيان هو وطن نهائي لليهود.
ولإن طوفان الاقصى مثل حدثا ضرب عميقا في فكرة الوجود التاريخي لليهود في فلسطين، فقد كانت التداعيات في غزة وفلسطين بل على مستوى جغرافية المنطقة كلها كبيرة جدا. فمنذ السابع من اكتوبر من العام الماضي حول الصهاينة أرض غزة إلى مسلخ بشري، والى مساحة للتقتيل. كما تم تدمير عناصر الحياة في غزة لاجيال قادمة. ومنذ الثامن من اكتوبر تضامنت المقاومة اللبنانية البطلة مع شعب غزة، وبدأت القتال مساندة لغزة وأهلها. وبالتوازي شنت المقاومة العراقية مئات العمليات البطولية ضد أهداف في قلب الكيان وضد القواعد الاميريكية المنتشرة في المنطقة التي تقوم بدور الحارس لأمن الكيان. وكان من تداعيات الطوفان، أن انخرطت إيران في الصراع مع الكيان بصورة مباشرة لتوجه اكبر هجومين لعمق الكيان لم يسبق للكيان أن شهدهما على مدى تاريخه كله.
ولم يغب اليمن عن الصراع برغم بعد المسافات وقلة الموارد والقدرات. فقد انخرط اليمنيون في الصراع، وأحدثوا تحولا تاريخيا في خريطة موازين القوى في المنطقة حينما قاموا بقصف الكيان، وانخرطوا بعمليات بحرية ضد اهداف بحرية مرتبطة بالكيان في منطقة شاسعة يزيد شعاع قطرها عن اربعة الاف كم. فالمنطقة الممتدة من بحر العرب مرورا بالبحر الاحمر وصولا لميناء ايلات باتت منطقة عمليات للقوة الصاروخية اليمنية وضرب اليمنيون حتى الان اكثر من 200 هدف بحري.
وفي مقابل هذا الانخراط لقوى المقاومة البطلة في ارتدادات الطوفان ويومياته، كان هناك انخراط غربي غير مسبوق على الضفة الاخرى من الصراع. الاميركيون، والالمان، والبريطانيون، والفرنسيون والاوروبيون والكنديون، واليابانيون والاستراليون، واخرون كلهم انخرطوا في تفاصيل معركة الطوفان. السلاح الذي يستخدمه القتلة الصهاينة يأتي من الولايات المتحدة، الألمان يزودون بالسلاح والمعلومات والصور، وتقوم سفنهم بالبحر المتوسط باعتراض صواريخ المقاومة اللبنانية. البريطانيون في قبرص منخرطون بكل تفاصل المعركة ضد غزة ولبنان واليمن. الفرنسيون يصدون الصواريخ الايرانية التي وجهت للكيان. وباختصار العالم كله يبدو حاضرا في قصة الطوفان. هذا الانخراط الدولي في الصراع يؤكد أننا أمام لحظة تاريخية تتشكل فيها خرائط جديدة، وتوزيعات جديدة لموازين القوى، وحدود جديدة للدول والممالك والعروش. كل العالم أتى لغزة، وكل العالم يريد أن تكون له يد وكلمة، وقصة، وحصة فيما يجري في غزة وفيما ستؤول إليها خرائط المنطقة بعد غزة. الاميركي جاء إلى غزة من على مبعدة 14 الف كم، والكندي ايضا مثله فعل.
وفي مقابل هذا الانخراط الدولي غير المسبوق في قصة الطوفان وتداعياته منذ السابع من اكتوبر الى يومنا هذا، وحده الدور المصري والصوت المصري قرر أن يختفي. مصر تبدو غائبة في صوت السلاح وقعقعته، وفي إعلامها وفي سياستها. الاعلام المصري بالكاد يتحدث عن الحرب التي تعيشها المنطقة من غزة حتى لبنان وسوريا والعراق وصولا لليمن وبحر العرب وإيران. وأما السياسة المصرية فقد قررت أن تصمت لتترك الحديث لوزير الخارجية ليعبر عن القلق مما يجري من حين إلى حين. واختزل الدور المصري بحركة رئيس جهاز المخابرات المصري التي حددت بدور مصري في المفاوضات مع حماس التي يجريها الامريكي من اجل انجاز صفقة لاطلاق سراح الاسرى الصهاينة.
من المفارقات أنه ومنذ السابع من اكتوبر اختفت من على شاشات التلفزة المصرية ساعات البث المباشر الطويل لرئيس الجمهورية الذي كانت تتشاركه القنوات المصرية من أجل تغطية أنشطة الرئيس المصري الذي كان يريد أن يكون حاضرا في حياة مصر والمصريين، كما في مستقبلهم. على مدى سنوات كان هناك ما يشبه الطقوس الاسبوعية أو شبه اليومية يقودها الرئيس السيسي ويحضر من خلالها في حياة المصريين عبر التلفزة لتنقل مباشرة الوقائع شبه اليومية لأنشطة الرئيس السيسي مكرسة مظهر الرئيس القوي الذي يجده المصريين كل يوم حاضرا في حياة بلدهم الكبير. ومنذ السابع من اكتوبر وطوفان الاقصى اختفت تلك الانشطة المهيبة وحيث الرئيس يجلس في قاعة احتفالات ضخمة جالسا على كرسي في مقدمة القاعة ومديرا ظهره لحشد غفير من رجالات الدولة أو الاقتصاد أو الجيش. منذ عام، خفت صوت مصر واختفى. بل إن الجامعة العربية التي سبق لها أن كانت أشبه بخلية نحل أيام ربيع بني صهيون، فقد صمتت ونكاد أن ننسى أنها تتخذ من قاهرة المعز مقرا لها.
منذ سبعينيات القرن الماضي انتصر خطاب بعض النخب المصرية في الثقافة والاعلام والسياسة والاقتصاد والذي يقول بمصر أولا، وأن مصر لا شأن لها بقضايا المنطقة، بل ذهب خطاب بعض النخب أن أنكر حقائق الجغرافيا، والتاريخ، والمصلحة ليرى أن مصر ليست عربية ولا تقع في قلب العالم العربي بل هي حالة قائمة بذاتها، أو هي امتداد لجغرافيا البحر المتوسط. وحتى من يعترفون بعروبة مصر، فهم يرون أن لا شأن لمصر فيما يجري خارج حدودها. فحدود مصر والامن القومي المصري تنتهي شرقا عند الجزء المصري من رفح، وهي تنتهي عند السلوم غربا. لا شأن لمصر فيما يجري على مبعدة متر واحد من خط الحدود عند رفح والسلوم. هؤلاء لا يرون مصر إلا داخل خط الحدود الدولية. فطالما أن الدم لا يسيل في القاهرة أو الاسكندرية أو أسوان فإن المحروسة هي بخير، ولا شأن لها بما يجري في العالم وحتى أصوات أطفال ونساء غزة الذي تمزقهم جيوش بني صهيون بقنابل اميركية وغربية ويسمعها سكان رفح المصرية المجاورة، لا تود النخب المصرية التي قيض لها أن تمسك ناصية القرار في مصر أن تسمعها.
أجزم أن مصر دفعت، وما زالت تدفع فاتورة كبيرة كثمن لهذا التشخيص والخطاب والقرار للنخبة المهيمنة في مصر. فالنخب التي ترفع شعار مصر أولا أثبتت الايام أنها تعجز حتى عن تعريف مصر ودورها ومصالحها. وهي لطالما عجزت عن تقديم قراءة براجماتية تعلي من مصالح مصر التي يرونها أولا. فهؤلاء يعجزون عن قراءة النموذج الفريد لمصر وحضارتها الفريدة ولدولتها المعاصرة. ولعل أول ما يعجزون عن قراءته هو تلك الفرادة أو الخصوصية التي تسم شروط إنتاج الدولة المصرية. فمصر نموذج حضاري وتاريخي مختلف، ومتمايز عن معظم الدول والامم الاخرى في العالم.
ذات يوم قال هيرودتس الاغريقي إن مصر هي هبة النيل. مصر التي زارها هيرودتس قبل الاف السنين أبهرته بحضارتها في التمدن، والعمارة والمعرفة والسياسة. في عبارة هيرودتس نقرأ كثيرا من عظمة مصر وتميزها، ولكن في عبارة هيرودتس نقرأ أيضا تلك الهشاشة التي وسمت نموذج مصر. فمصير مصر وحضارتها كان وما زال مرتبطا بالنيل. وحتى تكون مصر حية وموجودة لا بد أن يكون النيل موجودا وحاضرا ومتدفقا.
وما تحتاج نخب مصر أن تقرأه أيضا في عبارة هيرودتس هو أن شروط إنتاج مصر كدولة، وبقاءها كأمة لا يتم انتاجه داخل مصر بل إن شروط بقاء مصر موجودة خارج مصر. لا يمكن لمصر أن تبقى على قيد الحياة بدون تلك المياه التي تتدفق من الهضبة الاثيوبية وبعض السهول الافريقية على مبعدة الاف الكيلومترات من القاهرة والاسكندرية. فمصر وأكثر من أي دولة على هذه البسيطة محكومة بأن تفكر دوما بخارج حدودها الدولية كي تحل مشاكل القاهرة والاسكندرية والعريش. ومصر محكومة بأن تتعامل مع نطاق جغرافي حيوي لامنها يتجاوز بالاف الكيلومترات حدود مصر الدولية.
وإذا كان النيل يحتم على نخب مصر أن تعرف الامن القومي المصري بما يتجاوز الحدود المصرية بالاف الكيلومترات، فإن موقع مصر الجغرافي لجهة علاقته بقناة السويس وبالبحرين الاحمر والمتوسط يوفر عاملا إضافيا يلزم النخب المصرية أن ترى مصر خارج نطاق حدودها الجغرافية الدولية. صحيح أن قناة السويس تقع على أرض مصرية، ولكن قيام القناة بدورها ووظيفتها ورفدها للخزينة المصرية بما يقرب من العشرة مليارات من الدولارات يتجاوز أيضا ما يجري داخل الحدود الدولية لمصر. تماما كما في حالة نهر النيل، مصر نموذج للدولة التي لا يمكنها إلا أن تفكر وتتصرف وتفعل وترد على الفعل، وتخطط وتضرب حين يلزم الامر على مبعدة الاف الكيلومترات خارج حدودها الدولية. فمصر الدولة والحضارة والامة لا يتم انتاجها داخل حدودها الدولية بل يتم انتاجها ضمن نطاق حيوي بطول الاف الكيلومترات حول جغرافية مصر.
يعرف أعداء مصر وعلى رأسهم الغرب وكيانهم الصهيوني أسرار قوة مصر وهشاشتها لانهم يقرأون جيدا جغرافيتها السياسية وتاريخها ويستشرفون مستقبل المنطقة كلها. ومنذ عقود وبالقدر الذي كانت النخب المصرية تكرس أن لا شأن لمصر بما يجري حولها في السودان وليبيا وفلسطين وسوريا والعراق وأخيرا في غزة ولبنان، كان الغربي والصهيوني يعمل على توهين وهدم أسس بقاء مصر في محيطها وأهمها على الاطلاق محاصرة مصر وخنقها في مياه النيل من خلال سد النهضة الاثيوبي الذي هو مشروع ومخطط دولي أكثر منه اثيوبي وهو يتعلق كثيرا بمصر الدولة والامة والحضارة.
وفي غزة قررت نخب مصر أن لا شأن لمصر في غزة لطالما أن الدم يسيل فيها والدمار يحدث في بيوتها، ولكنهم تناسوا أن ما يجري في غزة ولاحقا في لبنان كان له ارتدادات على قناة السويس وعلى السياحة في شرم الشيخ إذ بات الاقتصاد المصري يترنح نتيجة صواريخ بايدن ونتنياهو الساقطة على بيوت غزة والضاحية وحيث وصل سعر الدولار الامريكي ولاول مرة في تاريخ مصر، وفي ذروة تطبيق شعار مصر أولا إلى ما يقرب من 50 جنيها، ما ترك اثارا كارثية على مديونية مصر وعلى حياة أبناءها. ومرة أخرى تثبت الاحداث والوقائع أن شروط بقاء مصر وحياتها ليست موجودة داخل مصر، وان على مصر كي تكون في صحتها أن تفكر فيما يجري حولها بعيدا حتى مضيق باب المندب واليمن، فكيف إذا كان الامر يتعلق بغزة وفلسطين ولبنان وسوريا.
ويصل تهافت نظرية مصر أولا بالكيفية التي تطرحها نخب مصر ما بعد كامب ديفيد إلى ذروته، حين نرى ما يحضر للمنطقة من خطط، وبما يحاصر أو يلغي نموذج مصر في الدولة والتاريخ والحضارة انطلاقا مما يجري من دمار وتدمير في غزة ولبنان. وهو دمار تصم النخب المصرية اذانها كي لا تسمعه. فمنذ سنوات بات الحديث عن ممرات وطرق ملاحة دولية تربط الهند والخليج واوروبا تمر عبر الكيان وتعبر غزة وتخترقها وبما يحاصر ويلغي ورقة قناة السويس الاستراتيجية من يد الدولة المصرية وللابد. ما يؤكد قولنا أن سكوت مصر عما يجري في غزة ولبنان، كارثي ليس بالمعنى الاخلاقي أو الوطني، بل بالمعنى البراغماتي المتعلق بمصالح مصر التي يدافع عنها كثير من النخب المصرية.
المنطق والعقل والاستراتيجيا كلها تقول أن سكوت مصر على ما يجري في غزة ولبنان لا يمثل أي ربح أو مكسب لمصر الدولة والامة والحضارة، بل يمثل كارثة تاريخية حقيقية. وأن علو صوت مصر في مواجهة الكيان غير مطلوب لدواع اخلاقية أو وطنية فقط، بل هو مطلوب كي تكون مصر منسجمة مع شعار مصر أولا كما تطرحه نخبها. فمن أجل مصر لا غزة، على مصر أن تتحرك في غزة وفي ولبنان بل وفي قلب الكيان كي تردع الكيان ورعاته من العبث بشروط بقاء مصر في الهضبة الاثيوبية الكبرى وفي ليبيا والسودان.