العصا الغليظة

 

إبراهيم أبو حويلة

يذهب استاذ العلاقات السياسية وصاحب نظرية الواقعية السياسية الأمريكي جون ميرشايمر إلى ان ما يحدث اليوم في العالم يستوجب اعادة النظر والتفكير، والخروج بحلول مختلفة للمشاكل التي يعاني منها العالم اليوم. حيث ان ما يحدث في اوكرانيا بتفوق الروس وسيطرتهم على نقاط استراتيجية واماكن حساسة في الأيام الأخيرة، وعدم قدرة اوروبا ومن خلفها الولايات المتحدة على وضع حد للصراع الذي كانت هي السبب فيه، فما قام به جورج بوش ووزيرته كونداليزا رايس من دفع اوكرانيا للإنضمام لحلف الناتو الذي حدث على أيام بايدن، وهو  الأمر الذي إستفز بوتين ودفعه للقيام بهذه الحرب.

وهذا الأمر كانت المستشارة الألمانية ميركل وبعض القادة الأوروبين يظهرون تحفظا عليه، ولكنها اي ميركل والكلام لجون لم تكن تملك الجرأة لمعارضة امريكا، أو اتخاذ موقف اكثر حدة في هذا الأمر يمنع حدوث الكارثة، مع انها كانت تملك تصورا لما يمكن ان يحدث، حيث ان بوتين لن يسكت وهذا ما حصل فعلا، واليوم يدفع الأوكرانيون والأوروبيون الثمن، ومستقبل اوروبا يتعرض لمخاطر جيوسياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة،  وتسعى لمكان آمن لها تحت الشمس، تخيل أوروبا تبحث عن مستقبل آمن، فأين نقف نحن العرب، فيما تقف الولايات المتحدة بعيدة عن التأثر المباشر بالأحداث القائمة التي من الممكن أن تتدحرج في أي وقت، وخاصة ان اوكرانيا تسعى لإمتلاك قوة نووية، علما بأنها تنازلت عنها طوعا سابقا وكانت في أراضيها.

في ذات السياق يذهب الصراع في شرق المتوسط إلى افاق خطيرة، ومن الممكن أن يتدحرج في أي لحظة إلى أماكن لا يمكن التنبؤ بها، ويتوقع جون أن ما قام به الكيان سيكون له عواقب وخيمة عليه وعلى المنطقة، وهذا ما حذر منه هو والعديد من المفكرين الأخرين، حيث ان العصا الغليظة للنتن ياهو لم تحقق اهدافها الإستراتيجية، وما يحدث في الشرق اليوم هو عكس ما يريده الكيان وحلفاؤه، فما حدث هو حروب إستنزاف صمدت فيها المقاومة ولم تنكسر كما كان متوقع، حتى مع الضربات القاسية التي تعرضت لها المقاومة وبنيتها التحتية والإبادة الجماعية التي تتعرض لها حاضنتها الشعبية.

ولكنها ما زالت قادرة على الإستمرار، وهذا ما يخلق موقفا صعبا للغاية على الكيان وداعميه، نعم ما زالت هذه الدول الداعمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، قادرة على ضرب البنية التحتية وممارسة الإبادة الجماعية، وقتل المدنيين وتدمير حياة الأمنين والعزل والنساء والأطفال في غزة ولبنان، ولكنه قتل من أجل القتل. وبلا عنوان ولا هدف سوى اشباع تلك الرغبة في مزيد من دماء الأبرياء.

والولايات المتحدة منخرطة تماما فيما يقوم به الكيان وداعمة له، والقول لجون حيث انها تدرك تماما اي الولايات المتحدة ان الدعم المادي والعسكري واللوجستي يستخدم في هذه الأغراض، ومع ارتفاع الأصوات أحيانا بين الطرفين في المكالمات الهاتفية، فإن الولايات المتحدة ما زالت مستمرة في ارسال شحنات الأسلحة والدعم الذي تقدمه للكيان وهي تدرك تماما فيما يتم إستخدامه. الكيان غير قادر على تحقيق النصر الإستراتيجي الذي يسعى إليه، وغير قادر على إنهاء المعركة بتحقيق نصر ساحق على الطرف الاخر، كما كان يحدث في حروبه السابقة مع بعض الدول العربية متفرقة ومجتمعة، وهو اليوم يواجه معضلة اساسية في إستنزاف موارده المالية والبشرية وقدراته المادية والعسكرية، ولا يظهر ان هناك نهاية في الأفق.

ويذهب جون إلى ان ما يقوم به الكيان والنتن ياهو تحديدا هو الهروب إلى الأمام، في سبيل تحقيق شيء ما يخرجه من هذا المأزق، ولكن يبدو أن هذه العصا الغليظة التي يملكها غير قادرة على تحقيق هذه النهاية، والسبب برأيه يعود إلى انه لا يواجه جيوش نظامية، وما تملكه المقاومة من صواريخ ومسيرات واسلحة فردية مقاومة للدروع والدبابات، قادرة على تحقيق خسائر مستمرة واستنزاف مستمر، ومن الصعب في ظل الظروف الحالية وضع حل نهائي لهذه المسيرات والصواريخ في ظل الأمكانيات القائمة، وعليه فإن النتائج التي ستحدث هي مزيد من عزلة الكيان وداعميه، وسقوط للسردية التي يتبناها نتيجة هذه القسوة الساحقة والعنف المفرط الذي يقوم به، وظهور تيارات وحركات جديدة في المنطقة وعالميا معارضة له ولسياساته.

هذا بالإضافة إلى ان الامور تتطور بإستمرار، والمقاومة تسعى بكل السبل لتحديث وتطوير اساليبها واسلحتها واستراتجياتها، ما يضع الكيان في تحد مستمر ومتطور، وهو اليوم لم يستطع بكل ما فعل وما يملك من قوة، وبكل ما حصل عليه من اسلحة وذخائر وقذائف ودعم منقطع النظير، في وضع حد لهذه المقاومة والتخلص منها، وعليه ما زال لوضع في المستقبل مجهول وغير  متوقع بالنسبة له .

ان هروب الكيان من الحلول السياسية، واعطاء الحقوق الشرعية لمن يقع عليهم احتلاله، وسعيه لفرض ما يريد بالقوة الساحقة والإبادة الجماعية، وتدمير البنية التحتية والتفرقة العنصرية سواء بخلق وعي جمعي بعدم جدوى المقاومة. أو بكي الوعي الجمعي كما يقولون، بحيث يصل الوعي الجمعي لشعوب المنطقة الى أن أي تفكير في المقاومة يحدث اثرا مدمرا على الكل، ويدفع ثمنه الجميع حتى تلك الفئات التي لا علاقة لها من قريب او بعيد بالمقاومة، كما نرى اليوم في غزة ولبنان، ومن المرجح ان تتوسع اثار هذه السياسة لتشمل كل المناطق التي يوجد فيها حتى لو اثار قليلة من المقاومة.

وهي ما يسمى بعقلية القردة و الموز والعصا المشهورة،  بحيث ان اي قرد يسعى ليأخذ موزة من القطف المعلق في القفص يؤدي إلى ان كل القرود تنزل عليهم العصا بالعقوبة الجماعية، وبعد فترة فإن أي قرد جديد يحاول اخذ موزة واحدة ستناله يد العقاب من القردة قبل أن تنزل العصا على الجميع، ولكن هذه السياسة لها اثار عكسية ولم تحقق الهدف الذي يريده الكيان وداعموه، مع انها تمارسه منذ نشأة الكيان تقريبا. وذلك لأن العقل المسلم والعربي الذي لم يستوعب الغرب منطقه، لا يقبل المسلم بحال منهج القردة هذا، ويستمر بالمقاومة برغم كل الخسائر .

رغم انه يتم هدم البيوت والتضيق على جميع من ظهرت فيهم المقاومة، ولا يدفع المقاوم ثمن فعلته وحده، كما هي الأعراف القانونية والدولية والجنائية المعمول بها عالميا ولكن الكل يدفع الثمن كما يحدث في الإستعمار الهمجي الغربي، قبل ان يتفقوا على قانون دولي وحقوقي واتفاقية جنيف، التي اتضح ان كل هذا لم يحقق شيئا في جعل السلوك الاستعماري الغربي يقترب من الإنسانية، وما زال  القوم على أخلاقهم وهمجيتهم  وعنفهم  وقسوتهم التي كانوا عليها منذ القرون الوسطى ، وما زالت مع ذلك المقاومة مستمرة.

وهنا طبعا تسكت الولايات المتحدة راعية النظام العالمي والحقوق الدولية والإنسانية المزعومة عن تجازات الكيان، مع انها لا تسمح لغيره حتى بالتفكير بالإقتراب او المساس بهذه الحقوق حتى لو في النية، كما فعلت في دول وأنظمة عديدة،  والواضح هنا ان الولايات المتحدة لا تسعى لحل عادل، ولكنها تسعى لفرض حلول مجزئة منقوصة وفوقية على شعوب المنطقة، وهذا ما يضع حتى تلك الفئة التي تتسم بتقبل ما تطرحه الولايات المتحدة في المنطقة، في خانة حرجة للغاية نتيجة لتصرفات الولايات المتحدة والكيان والداعمين لهم.

وهنا اخرج من عباءة جون وافكاره، حيث يسعى هو لأن يجعل الكيان يتقبل تلك الأفكار والحلول السلمية والسعي الى حل عادل في سبيل إخراج الكيان من ازمته،  وتساهم في إيجاد مكان آمن له في هذه المنطقة، ولا يريد خلق وزيادة تلك التحديات التي تساهم في إضعافه والتخلص منه، ويبدو أن العالم كما يقول مقبل على أكثر من هتلر فبوتين من جهة وترامب من جهة واضيف انا له النتن ياهو من جهة أخرى، وكل هؤلاء لا يريدون حقا ان تهدأ الأمور، او ان تكون الحلول مقبولة للجميع .

لم تفلح العصا يوما في جعل الشعوب تستكين للظلم والعبودية وخاصة في الشرق فهل يعي الغرب هذه الحقيقة .