الأردن وسياسة مسك العصا من المنتصف

 

الدكتورة هديل محمد القدسي

صانع القرار في الدولة حين يريد اتخاذ أي قرار يأخذ بالحسبان أولاً إمكانياته، ما مقدار إمكانياته والأدوات التي يمتلكها والحد الذي يستطيع بلوغه، كما ويأخذ حسابات الربح والخسارة، ماذا سأكسب من هذا وما سأخسره، وهذا بالطبع من صميم الواقعية السياسية، وصانع القرار الأردني تمرّس على القرار الواقعي لا الحالم غير الواقعي، في كل قراراته، ومن بينها ما يحدث من حولنا حيث تشتعل المنطقة بالحرب من كل الجهات والجبهات.

إن الأولوية لصانع القرار الأردني هو الحفاظ على أمن الدولة والشعب قبل أي حسابات ربح أو خسارة، وهي الركيزة الأساسية في عقليته وتفكيره وحساباته، وبناءاً عليها يتخذ القرار، من هنا جاء الموقف الأردني بمسك العصا من المنتصف، فمن ناحية فإن الأردن تقف الى جانب الأشقاء بفلسطين في قضيتهم بتحقيق دولة فلسطينية مستقرة، والكل يعلم أن الأردن هي الأقرب لفلسطين جغرافياً وعاطفياً لما بينهما من مشتركات أكثر وأظهر من أن تذكر، لذا فإن الموقف الرسمي الأردني كان داعماً للشعب الفلسطيني في غزة منذ أول أحداث أكتوبر العام المنصرم، وهذا ماصدر عبر تصريحات ولقاءات متكررة من مختلف المواقع الرسمية من اعلاها متمثلاً بجلالة الملك عبدالله الثاني لرئيس الوزراء ووزير الخارجية، والتي أكدت مراراً وتكراراً موقف الأردن الداعي الى وقف إطلاق النار وإحلال السلام، ولكن يبدو أن الأردن كان يحلّق وحيداً في سماء متلبّدة بالغيوم، إذ أن الموقف العربي الرسمي لم يكن بالمستوى المطلوب ولا فاعلاً ولم يولِ القضية إهتماماً، والموقف الغربي بقيادة الولايات المتحدة كان داعماً للعدوان الاسرائيلي تحت عنوان الدفاع عن النفس والقضاء على التهديد لذي تشكله حماس، وبين هذه المواقف فإن المواطنين في غزة دفعواً ثمناً باهظاً جداً بفقدان الأرواح والممتلكات.

بينما على الطرف الآخر يوجد موقف معاكس، هذا الموقف الذي يمثله مايدعى بمحور المقاومة، واجهته حركة حماس في غزة، وحزب الله اللبناني، وايران وجماعة الحوثي في اليمن والميليشيات المسلحة في العراق، هذا المحور الذي اختار المواجهة المسلحة مع اسرائيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولأهداف مختلفة لكل طرف من أطراف هذا المحور، حركة حماس في أدبياتها تسلك طريق العمل المسلح كسبيل لتحرير الأرض، حزب الله دخل الحرب ضمن مبدأ وحدة الساحات وكجهة ساندة ولكن الحرب توسعت كثيراً حتى صار جبهة أساسية، الحوثيون أيضاً دخلوا كجهة مساندة لإظهار أنها جهة مقاومة، والميليشيات العراقية التي تدخل بتوجيه إيراني لتنويع الأطراف وتشكيل ضغط أكبر وساحات مختلفة، أما إيران فلها أهداف ستراتيجية من دعمها لهذا المحور، الأول قوة حقيقية من خلال حلفاء أو تابعين مؤثرين، والثاني تثبيت لمنظومة الردع المتبادل بينها وبين اسرائيل.

ومع أن النار المشتعلة من حول الأردن وبحث كل طرف عن مصالحه الخاصة التي قد تتعارض مع المصلحة الوطنية العليا للأردن، إلا ان صانع القرار الأردني لم يمنع التعاطف الشعبي مع غزة ولم يتعرّض له، فخرجت المظاهرات واحدة تلو الأخرى في أماكن مختلفة متضامنة مع غزة وداعمة لها، وتواصلت الأردن مع ايران بزيارة الصفدي لطهران وبزيارة وزير خارجية ايران عبداللهيان ومن بعده عراقتشي لعمان من أجل تهدأة الأوضاع ومحاولة إيجاد حلول للأزمة.

فالأردن بيضة قبان في المعادلة بما يمتلكه من علاقات دبلوماسية طيبة مع مختلف الجهات وبحثه الدؤوب عن السلام في المنطقة، فتارة يحاول التأثير على الأصدقاء في اميركا والغرب بالممكن والمتاح، وتارة أخرى بتقريب الأطراف المشتبكة في المنطقة.

إن الموقف الأردني رغم حراجة الوضع وخطورته ولكنه ثابت برؤية راسخة وهي أمن الدولة والشعب الأردني قبل كل اعتبارات أخرى، فلا مكان للطيش والمغامرات وإنما كل شيء مدروس بتعقّل مراعياً الاعتبارات الوطنية والقومية بموازاة ما توفره الأمكانيات المختلفة التي تمتلكها الدولة لكي تستخدمها وتناور بها في علاقاتها الدولية.