مَن فَهِمَ عبقرية المكان أكثر:مصر ام اسرائيل ؟
وليد عبد الحي
أزعم وبثقة عالية اهمال النخبة الحاكمة المصرية منذ سبعينات القرن الماضي التوجه الاستراتيجي لمصر كما رسمه المفكر المصري جمال حمدان في كتابه(شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان- اربعة اجزاء وحوالي اربعة آلاف صفحة ) بينما ادركت النخبة الحاكمة في اسرائيل الثراء الكبير في هذه الدراسة ، وبنت استراتيجيتها تجاه مصر من خلال وعي عبقرية المكان والعمل على تحويله الى " يباب المكان".
خلاصة عبقرية المكان:
بنى جمال حمدان عبقرية المكان المصري على بعدين هما الموضع( مصر دولة نهر) والموقع( مصر دولة برزخ) اي انها معبر بين القارات التاريخية (اسيا - افريقيا - اوروبا)، ويرى ان القيمة الاكبر هي لدولة البرزخ مع ان كلا من الموضع والموقع يعزز احدهما الآخر، وان حالة مصر في كل حقبة تاريخية هي نتيجة لتكامل او انشطار هذه العلاقة المزدوجة، ويمكن تبيان ذلك في رصد التاريخ المصري لنكتشف ان العصور الذهبية لمصر هي التي تكاتفت فيها مقومات الموضع والموقع، بينما شابها الوهن حيث بهتت هذه العلاقة نتيجة الوهن للبعدين، وتراوحت مصر في مكانتها المتوسطة- عند حضور احدهما وغياب الآخر.
الجانب الآخر في نظرية جمال حمدان هي ان مصر تصبح في دائرة الخطر والتراجع كلما غلَّبَتْ الموضع(دولة النهر) على الموقع( دولة البرزخ) اي كلما انكفأت على نفسها ، فالاول انصب على العناية بالزراعة والانتاج ،بينما الثاني يقوم على توظيف الموقع لبناء شبكة علاقات تجارية وتبادلية في كافة المناحي وعلى المستويين الاقليمي والدولي ،وهو ما يوفره الموقع بوسطيتها المكانية فهي لا تبعد عن اطراف آسيا (40 كيلو متر) وهي بوابة افريقيا ثم هي الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط الرابط بين افريقيا وأوروبا.
مصر والواقع الراهن:
ان اية مراجعة للتاريخ المعاصر خلال أكثر من نصف القرن الماضي يشير الى ان مصر فقدت او تفقد تدريجيا كلا من الموضع والموقع، فدولة النهر(الموضع) اصبحت أعجز عن تغذية 105 ملايين نسمة، والمشروعات الاثيوبية –سد النهضة وما قد يتبعه من مشروعات من دول افريقية اخرى او حتى من دولة جنوب السودان - تشكل تمهيدا لمزيد من الشلل في دور الموضع ، وهو ما يتجلي في ان 32% من المصريين يقعون الآن ضمن " ما دون خط الفقر" ، ويقع 60% من المجتمع المصري ضمن دائرة الفقر، وان قيمة ديون مصر تصل عام 2024 الى 168 مليار دولار.
اما دولة البرزخ(الموقع) فهي تقع في دائرة من النار من الجهات الأربع: فالسودان جنوبا تدور فيه حرب اهلية طاحنة ، والغرب في ليبيا مضطرب الى حد لم تعد هناك دولة قطرية واضحة المعالم ، وشمالا حربا ضارية في غزة ،وشرقا البحر الاحمر لم يعد ممرا بحريا آمنا بعد انخراط اليمن في المواجهة مع اسرائيل، فإذا اضفنا لذلك احتمالات المواجهة الايرانية الاسرائيلية واضطراب الاقليم ككل ،فإن ذلك لا يعني إلا تحطيم دولة الموقع من خلال الاعباء التالية:
1- فقدان مصر للجزء الرئيسي من دخل قناة السويس والذي يزحف الى 7 مليار دولار منذ بدء الحرب في غزة
2- تذبذب قطاع السياحة المصري خاصة من جانب الحجوزات في المدن الحدودية، ثم اضطراب عمليات النقل الجوي بسبب الهجمات المتبادلة..الخ.
3- تدفق اللاجئين من كل مناطق الاضطراب الى مصر ، ويكفي النظر في الارقام التالية( حسب بيانات الحكومة المصرية) : 4 ملايين لاجئ سوداني، 1.5 مليون لاجئ سوري،مليون يمني، مليون ليبي،480 الف طالب لجوء من جنسيات مختلفة، كل ذلك جعل مصر ضمن العشرة دول الأكثر تضررا من تضخم اسعار الغذاء، وهنا نكتشف تكاتف تراجع الموضع مع تراجع الموقع.
4- القلق المصري من أن اندلاع الحرب بين ايران واسرائيل قد يقود الى مواجهات على ارض الخليج مما يدفع بمئات آلاف العاملين المصريين للعودة الى مصر ، وهو ما يحرم الاقتصاد المصري من عائدات تحويلاتهم التي وصلت عام 2023 الى حوالي 24.2 مليار دولار.
ماذا ترتب على أزمة " دولة النهر" و " دولة البرزخ":
من الملاحظ ان النشاط المصري الوحيد في المنطقة هو المشاركة الشكلية في مفاوضات وقف اطلاق النار في غزة بالتعاون مع كل من قطر والولايات المتحدة، وتشير متابعة هذا النشاط الى انه دور شكلي فاقد لاي تاثير، بينما قطر دورها الوحيد هو دبلوماسية الانابة(لتسهيل التواصل مع خصوم الولايات المتحدة واسرائيل) بينما المفاوض الحقيقي هي الولايات المتحدة.
السؤال الآن هو: الى اي مدى تدرك القيادة المصرية الحالية " يباب المكان"؟ وبدون حلف الايمان؟...موضوع يحتاج الى تأمل، لكن كل الادبيات السياسية الاسرائيلية تشير الى دور اسرائيلي في هذا اليباب من حضور مادي في اثيوبيا(وإلا كيف نفسر ان الطابق الرابع من مبنى وزارة المياه الاثيوبية لا يقطنه الا الموظفين الاسرائيليين؟)، ثم الى الاصرار الاسرائيلي على ابقاء الصراع محتدما لمزيد من انهاك الموضع والموقع المصري، ثم الى تسلل لبنية المجتمع المصري وقواه السياسية، فخلال الفترة من 1979 الى الآن تم الكشف عن اكثر من 36 شبكة تجسس اسرائيلية في مصر، وتواصل الكشف بين الحين والآخر عن خلايا التجسس هذه.
ان اي قارئ للمشهد القائم يعلم ان اسرائيل تريد بقاء مصر دون دولة النهر ودون دولة البرزخ...بل انها متهمة بانها وراء احتراق واختناق جمال حمدان وبشهادة ادباء مصر واهله ، بل ان مخطوطات كتبه الثلاثة الاخيرة(كتاب اليهود والصهيونية واسرائيل،وكتاب العالم الاسلامي المعاصر، وكتاب علم الجغرافيا) والتي كان يعدها للنشر غابت مع الحريق والاختناق... لقد فهموا خطورة مشروعه الفكري فقتلوه،اما نحن فلم نفهمه وتركناه دون أدنى حماية.