كلمة السر - نموذج عالمي بهوية عربية أردنية
نسرين قطامش مدير عام مؤسسة الحسين للسرطان
يواجه الأردن - كما العالم أجمع - تحديات مضاعفة تتعلق بانتشار الأوبئة وتفاقم معدلات الأمراض المعدية وغير المعدية. وهنا لا بد لنا من وقفة حقيقية نقيم من خلالها منهجيتنا في مواجهة هذه التحديات، خاصة فيما يتعلق بالتوعية والتواصل مع المواطنين وإشراكهم في جهود مكافحة الأمراض ومنع انتشارها.
في هذا السياق، حقق الأردن قصة نجاح عالمية تتمثل في البرنامج الأردني لسرطان الثدي وحملات التوعية التي تطلقها مؤسسة الحسين للسرطان. حيث لم تقتصر هذه الحملات وأنشطة الوصول المجتمعي الممتدة على مدار العام على زيادة الوعي فقط، بل أظهرت أثرًا حقيقيًا في ارتفاع نسب الكشف المبكر عن سرطان الثدي بشكل ملحوظ، وبالتالي إنقاذ الحياة، حسب السجل الوطني لسرطان الثدي.
وهنا يأتي التساؤل عن كلمة السر في نجاح هذا النموذج! وإمكانية تطبيقه في مناحٍ أخرى تتعلق بسياسات التوعية وتغيير السلوك في مجال الصحة العامة ومجالات أخرى تؤثر على حياتنا بشكل يومي.
نهج تشاركي رائد
بدأت جهود البرنامج الأردني لسرطان الثدي بقيادة مؤسسة ومركز الحسين للسرطان في عام 2007 بنهج تشاركي وشمولي قائم على تحليل واقع الحال وفهم عميق للمحددات الاجتماعية المرتبطة بالعزوف عن فحوصات الكشف المبكر آنذاك. حيث كانت 70% من السيدات يلجأن لفحوصات سرطان الثدي في مراحل متأخرة، حيث فرص الشفاء منخفضة جدًا، وتكاليف العلاج مرتفعة. كما أدى ذلك لفقداننا المئات من أمهاتنا وأخواتنا وصديقاتنا فقط بسبب عدم توفر خدمات الكشف المبكر ذات الجودة المناسبة، وعدم الإقبال على الخدمات المحدودة المتوفرة آنذاك بسبب كلمات مثل العيب، الخوف، التردد، والوصمة.
وبناءً على هذه الدراسات، وُضعت خطط قابلة للتطبيق تتناسب مع المعطيات والثقافة المحلية بالاستفادة من الخبرات العالمية، بهدف واضح ومتفق عليه، وعمل مؤسسي، وفريق مؤهل، وقيادة ذات رؤية، وشراكات واسعة بين جميع القطاعات والمؤسسات، وبمشاركة فاعلة من المجتمعات المحلية.
خدمات ذات جودة متاحة للجميع
عند تأسيس البرنامج، كانت وحدات فحص الثدي تُعد على الأصابع، وكان الوصول إليها صعبًا، حيث كانت تتركز في المدن الرئيسية مع غياب شبه كامل لأنظمة إدارة الجودة وبناء القدرات والبروتوكولات الوطنية في هذا المجال. ولمعالجة هذا التحدي، وُضعت خطط عملية لتوحيد الأنظمة والبروتوكولات وتأهيل وتدريب المئات من الكوادر الطبية من جميع القطاعات. كما تم تجهيز أكثر من 90 وحدة ماموجرام في جميع محافظات المملكة بالتعاون مع جميع القطاعات، بالإضافة إلى تشغيل عيادات متنقلة في المناطق النائية والأقل حظًا لضمان الوصول المتكافئ إلى خدمات الرعاية الصحية، مما قلل الفجوة بين سكان تلك المناطق وسكان المدن الأكثر حظًا.
قضية اجتماعية تهم الجميع، الرجال قبل النساء
قام البرنامج ببناء نموذج متكامل للتواصل بهدف تعزيز السلوك الصحي من خلال تغيير المفاهيم الثقافية المتعلقة بسرطان الثدي. تقليديًا، كانت مناقشة الأمراض، خصوصًا تلك المتعلقة بصحة النساء، محظورة. كانت هناك حالة إنكار وتجاهل لسرطان الثدي، بالكاد كنا قادرين على عقد محاضرة توعية واحدة شهريًا. "أذكر جيدًا كيف كانت تنسحب السيدات من المحاضرة واحدة تلو الأخرى عندما يعرفن موضوع المحاضرة."
وبعد سنوات، تمكن البرنامج من خلال حملاته وأنشطته من كسر هذه الحواجز من خلال الحوار المفتوح، وتشجيع النساء على إعطاء الأولوية لصحتهن. كما أكدت هذه الجهود أن سرطان الثدي ليس موضوعًا يجب الهمس حوله، بل يجب مواجهته بجدية وعلنية، بمشاركة الرجال قبل النساء، حتى تحول الموضوع من قضية نسائية بحت إلى قضية مجتمعية تمس كل بيت أردني. وأدرك الجميع أهمية هذه الجهود في الحفاظ على سيداتنا وقدرتهن على العطاء خلال أهم مراحل حياتهن. فأصبحت حملات التوعية بأهمية الكشف المبكر تحظى باهتمام الجميع - رجالًا ونساءً - فجميعنا يتذكر "أوعدينا تفحصي" و"منك أنت غير" و"يلا على الفحص" وغيرها من شعارات حملاتنا السنوية في شهر أكتوبر.
كما باتت أنشطة أكتوبر الوردي ومبادرة "فكر بالوردي" جزءًا لا يتجزأ من خطط المدارس والجامعات والشركات والمنظمات والمستشفيات ومراكز تحفيظ القرآن والجمعيات والأندية الرياضية والفنادق وغيرها.
إسأل مجرب، تمكين السيدات لوضع صحتهن على قائمة سلم أولوياتهن
بدأت جهود البرنامج بحملات وطنية للتوعية حول سرطان الثدي وأهمية فحوصات الكشف المبكر في إنقاذ الحياة. واعتمدت تلك الحملات على عرض قصص شخصية لناجيات من سرطان الثدي على لافتات الإعلانات والتلفزيون والراديو، مما أبرز أهمية الكشف المبكر من خلال قصص واقعية أثرت بشكل كبير على قلوبنا وعقولنا من منطلق "اسأل مجرب"، حتى بات موضوع سرطان الثدي من المواضيع الأكثر تداولا في بيوتنا على مستوى الوطن.
بُنيت جهود التوعية وتعزيز السلوك على تمكين النساء من خلال تسليحهن بالمعرفة والمعلومات الدقيقة وحثهن على العناية بأنفسهن. وتوفير الخدمات الصحية اللازمة وتشجيع المشاركة النسائية في اتخاذ القرارات الصحية المتعلقة بالكشف المبكر بعيدًا عن الضغوطات الاجتماعية والصورة النمطية لدور المرأة وتضحيتها بصحتها للقيام بأدوارها الاجتماعية المعتادة. فعملنا على حث السيدات على وضع صحتهن على قمة سلم الأولويات، وحثهن على تخصيص الوقت اللازم للعناية بأنفسهن، وتشجيع الرجال على دعم السيدات لتبني هذا السلوك.
بيئة سياسية واجتماعية داعمة
عمل البرنامج على خلق بيئة داعمة على المستوى السياسي والمجتمعي من خلال مشاركة صناع القرار وقادة الرأي من رجال دين ومثقفين ومثقفات وكوادر طبية وإعلاميين وغيرهم في جهوده وأنشطته. كما حرص على وضع الكشف المبكر على سلم أولويات صانعي السياسات وإدراجه بندًا أساسيًا في الخطط والاستراتيجيات الوطنية، حتى باتت قضية الكشف المبكر قضية عامة تتقاطع مع خطط الصحة، وتمكين المرأة، والنوع الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي.
تأثير قابل للقياس
بعد سنوات قليلة من تأسيس البرنامج، لا يمكن إنكار النتائج. حيث أدت تلك الجهود إلى مضاعفة عدد النساء اللواتي يقمن بالفحوصات الدورية، وارتفعت معدلات الكشف المبكر لتصل إلى أكثر من ٦٠٪، مما أسفر عن تحسين نتائج العلاج. وبالإضافة إلى ذلك، تغيرت الآراء المجتمعية تجاه سرطان الثدي بشكل خاص والسرطان بشكل عام.
نموذج عالمي بهوية عربية أردنية
يقدم البرنامج الأردني لسرطان الثدي اليوم كنموذج مشرق في تطبيق منهجية تعزيز السلوك الصحي بفعالية لمعالجة قضايا صحة عامة ملحة. ونجاح هذا النموذج هو شهادة على قوة الاتصال والتواصل المباشر المبني على نهج علمي تشاركي هدفه ومحوره الأساسي الإنسان وصحته. وبمحتوى ورسالة وقنوات تحترم ثقافة المجتمع وهويته، بدأت باختيار الشماغ الأردني كهوية بصرية للبرنامج، فدخل القلوب قبل العقول، وحظي بمكانة خاصة في قلب كل أردني وأردنية، مما عزز مكانته القيادية على مستوى الوطن العربي والتي تمثلت بالتوسع في نطاق حملاته وتوحيد جهود التوعية في 16 دولة عربية خلال السنوات الثماني الماضية.
مثال يحتذى في الشراكة الحقيقية والفاعلة
رغم أنني من دعاة الابتعاد عن منهجية القص واللصق في برامجنا وحلولنا على المستوى الوطني، إلا أنني وفي قصة البرنامج الأردني لسرطان الثدي أدعو صناع القرار ورسم السياسات العامة في القضايا الاجتماعية والتنمية المحلية، بتبني نموذج البرنامج واستنساخه وتطبيقه على جميع برامج التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وخاصة فيما يتعلق بإيجاد قضية عامة ومتفق عليها من قبل الجميع، محورها تحسين جودة حياة المواطن والحفاظ على كرامته، ووقودها العمل الجماعي المشترك بدون أي أجندات جانبية.